الخميس 29 تموز , 2021 08:23

الاستهداف الإعلامي لبيئة المقاومة

الحرب الإعلامية

أثار حزب الله منذ نشأته رسميا في 1982 موجة من الاعجاب والذهول والتساؤل، وسبق الوجود التنظيمي لقواعده، وجودٌ فكري وعقائدي، وكان لقيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الامام الخميني الراحل "قدس سره" دافعًا قويًا لانطلاق صلة اسلامية حيوية في لبنان. حزب الله لا يشبه غيره من الاحزاب التي تبنّت أسساً عقائدية في توجهاتها، فقد نجح في الجمع بين وطنية مخلصة وصافية تحمل راية الدفاع عن ارض محتلة وتواجه عدوًا متربصًا، لتضعه في مقدمة الذين قدّموا التضحيات دفاعًا عن بلدهم من جهة، وبين الإصرار على الخلفية العقائدية من جهة أخرى.

يرى البعض ان العنوان العقائدي والمذهبي للحزب قد يساهم في تحجيم قدرته على الاستقطاب التنظيمي وحصره في بيئة معينة تتناسب مع هذا التكوين العقائدي، في بلد هو لبنان وإقليم هو الشرق الأوسط. وبالرغم من ذلك يتمتع حزب الله بمرونة عالية، ويحافظ على هويته العقائدية الدينية المذهبية، وعلى ارضيته الصلبة بين أبناء طائفته، يتخطى الأحزاب العقائدية التي تدعي دومًا قدرتها على تشكيل أطر عابرة للطوائف ومتعددة الانتماءات الطائفية، لينجح في تشكيل بيئة مساندة متنوعة طائفيا، عبر نسجه أشكالًا متعددة من مستويات التحالفات التي يصعب القول أنها تحالفات للطوائف، بين الطائفة التي يتحدر منها حزب الله وطوائف كل من شركائه. كما لا يمكن القول اٍنّ شراكاته هي مجرد ترتيب مواقع نفوذ شكّلها في سائر الطوائف. واللافت أكثر، هو أنّ هذا التكوين الممتد في الطوائف ممتد أيضا في الطائفة التي ينتسب اليها حزب الله خارج حدود لبنان، كما هو ممتد في طوائف ومذاهب غير مذهبه وطائفته خارج الحدود أيضا، حتى يمكن القول اٍن متخاصمين في الداخل طائفيًا وسياسيًا يلتقون على التحالف مع حزب الله، وبصورة أكثر وضوحًا يحصل هذا الامر خارج الحدود.

هناك العديد من الأسئلة والاشكاليات التي طرحت ولا تزال حول حزب الله وكيفية انطلاقه من بيئة شيعية في لبنان لا يتخطى عددها ثلث سكانه، ليصبح قوة حقيقية بكل المقاييس. يأتي حزب الله ليفاجئ الجميع بتحقيق الإنجاز تلو الإنجاز على "إسرائيل" من دون أن يضيّع وقته في الدخول في جدالات داخلية للبحث عن شرعية وجود منحته إياها ظروف استثنائية أنشأت مقاومة صمدت وقدّمت الكثير من التضحيات.

من التساؤلات المطروحة أيضا كيف تحول هذا الحزب الى حدث عالمي خلال عمر لم يبلغ العقد الرابع، وأستطاع ان ينجز ما عجزت عنه أحزاب تبلغ ضعف عمره على الأقل، ومن خلفيات فكرية وعقائدية وسياسية ونضالية مختلفة؟

هل لتصنيفه الأيديولوجي كحزب عقائدي والمرتبط بفكرة حماية الوجود، وتميّزه كممثل شرعي لبيئة مستهدفة تبحث عن الامن والسلام، دور في ذلك؟

ثم يأتي سؤال مهم آخر، كيف أصبح هذا الحزب لاعبًا إقليميًا مهما؟

صعد نجم حزب الله في مطلع تسعينات القرن الماضي، ليصبح القائد لخيار المقاومة العربية-الإسرائيلية بعد ان دخل العرب في موجة استسلام. نجح حزب الله في تكبيد العدو الصهيوني اول هزيمة محققة انتهت بإرغامها على الانسحاب من جنوب لبنان من دون مفاوضات ولا قيود ولا شروط ولا تحقيق أي مكاسب، بل حتى من دون التطلع لذلك أصلا. فقد تمكن الحزب من ان يفرض على إسرائيل الانسحاب الذليل وبمعنويات مهزومة من دون أي التباس، فيكفي لحسم النتيجة سماع أصوات قادة الاحتلال ينتحبون على مذلة خروجهم من لبنان، والمتفائل بينهم يقول لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، وبالمقابل يصدح صوت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قرب الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث كان يسمعه ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده، وهو يطلق من ساحة مدينة بنت جبيل في جنوب لبنان، معادلته الشهيرة التي بقيت مصدر ارق وقلق للإسرائيلي ولا تزال وصارت عنوان مدرسة في الحرب النفسية " إسرائيل اوهن من بيت العنكبوت".

جاءت حرب تموز 2006 التي شنتها إسرائيل تحت شعار سحق حزب الله لتكون المحطة الفاصلة حول الجواب على حقيقة ما جرى في عام 2000 عندما أجبرت إسرائيل على الانسحاب المذلّ عبر السياج الحدودي، تاركة عملاءها يواجهون قدرهم المحتوم.  في حرب تموز، بلغ حزب الله مرتبة من الابهار بالإنجاز والاعجاز كما يقال، ما جعل تجربته وتعاظم قوته حدثا عالميا، ليس فقط بالنسبة الى معنى الفشل الإسرائيلي الموثق على ألسنة قادة إسرائيل بلا استثناء، بتعابير مختلفة بلغت ببعضهم حد القول ان زمن إسرائيل بدا بالأفول بعد هذه الحرب.

أنشأ حزب الله في هذه الحرب معادلة جديدة قوامها تثبيت رواية الانسحاب المهين لإسرائيل في سنة 2000 والتي حاول قادته التستر عليها والتي ما انفكت تتكرر بعد ذلك خصوصا في 2005 وهذه المرة في غزة وللأسباب ذاتها لتمنح مصداقية لرواية الحزب بوجه التزييف الذي ارادته إسرائيل.

أكد حزب الله نصره في 2000 عبر نصره المحتوم في 2006، فحسمت حرب تموز تفوق إسرائيل وباتت هذه الحرب المعركة التي أفل معها نجم إسرائيل ودخلت بعدها في العد التنازلي الذي بشرها به مؤسسها ديفيد بن غوريون، عندما تخسر قدمها الثانية أي قدرة الردع وشن الحروب، بعدما خسرت قدمها الأولى أي الاحتفاظ بالأرض التي تحتلها الى ما تشاء، فتضمها الى كيانها او تقايضها بما هو أثمن وما هو أهم لأمنها ودورها، وبالأحرى لمشروعها القائم على مبادلة إسرائيل الكبرى بإسرائيل العظمى، بعدما حسمت المعادلة التي صاغها السيد حسن نصر الله بالقول باننا في عام 2000 اسقطنا مشروع إسرائيل الكبرى القائمة على التوسع الجغرافي، وفي عام 2006 اسقطنا إسرائيل العظمى القائمة على الردع، والقائمة بالتالي على مقايضة الدول أمنا تمنّ به إسرائيل مقابل امتيازات اقتصادية وعسكرية تحصل عليها.

جاءت الحرب السورية بداية من تحركات 2011 لتدعم المعادلة الجديدة، وان تغيرت هوية العدو ولو مؤقتا لتكون المواجهة هذه المرة مع المشروع التكفيري وهو في الحقيقة الوجه الاخر للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. واستطاع حزب الله خوض المعركة والانتصار. كان انتصارا مذهلا للصديق قبل العدو، لأن إرادة القتال والمواجهة عند شباب المقاومة كانت اقوى من أن تهزمها محاولات التشويه او التهديد هنا او هناك. وسقط المشروع الأمريكي الإسرائيلي من جديد وسقطت معه كل مشاريع الهيمنة والتفكيك، ونجح الحزب مرة أخرى في تحرير الأرض من الجماعات التكفيرية ورفع راية الانتصار.

اليوم، أصبح حزب الله شريكا في كل المعادلات والتوازنات في المنطقة، بل فاعلا في رسم استراتيجيات الصراع مع العدو الصهيوني. يتحرك حزب الله على مستوى الإقليم بثبات وقدرة على التأثير ويوازن في كل الأحوال بين دوره كمقاومة في محور ممتد من لبنان الى فلسطين والعراق وإيران واليمن، ودوره كحزب سياسي مشارك في المشهد السياسي الداخلي. وضع حزب الله لنفسه الهوية، هو ليس حزبا يؤمن بالمقاومة وحسب، ولا حزبا مقاوما فقط، بل هو حزب المقاومة، حزب لحساب المقاومة كل ما عنده وما يمكن ان يصير عنده له مهمة واحدة، هي تقدم مشروع المقاومة، ونجاحه، وكل تحالف او خصومة، كما كل مساومة أو مواجهة، بوصلتها واحدة، خدمة مشروع المقاومة وحمايته.

تشريح البيئة

يطرح تساؤل دائما من هي بيئة المقاومة؟  هي مجموعة من الفاعلين يتوزعون على نقاط جامعة بين منتسب ومؤيد وممثل شرعي ومستفيد، إضافة الى شريحة تؤيد حزب الله لكنها لا تؤيد أحيانا وفي مفاصل عديدة، سياسته الداخلية.

تسائل الكثيرون عن هذه البيئة الحاضنة محاولين البحث عن منطلقات لعناوين قد تكون قادرة على منحهم جوابا على اسئلتهم.  ننطلق من بعض المسلمات الواضحة والتي ستكون منطلقا أساسيا لتشريح هذه البيئة.

يطلق عليها اسم البيئة الحاضنة، أي تلك التي حضنت المقاومة او بمعنى اصحّ هي المنبع الأساسي الذي نهل منه المقاومون حركتهم وخياراتهم وعقيدتهم الايمانية، انها البيئة التي تربّى فيها القادة والمجاهدون ونهلوا منها قواعد الصمود والمواجهة في زمن شوهته الهزائم.

من الضروري التأكيد على أن هذه البيئة لم تنشأ عبثا وان المقاومة هي نتاج تجربة إنسانية واخلاقية وايمانية أدرك فيها المنتسبون لخط المقاومة والمؤيدون والمشاركون في هذا الخط، كل الفرص لتحقيق الرضا والقناعة، بل أدركوا فيها معنى الصبر. انها تجربة فريدة في عالم تنهال فيه الطعنات من كل صوب، تلك الطعنات الجاهزة لوأد أي مبادرة للمواجهة مهما كانت بسيطة ومتواضعة. لقد عانت تجربة الإمام الخميني في الماضي نفس المعاناة التي عاشتها تجربة المقاومة في لبنان وتجربة الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية. فعند بداية الستينات واجه الإمام الخميني أولاً حملة تشكيك واسعة في هدف انتفاضته الشعبية. لقد شككوا في واقعية الهدف بالقول: (أيها العجوز، هل تستطيع وأنت لا تملك سلاحاً طرد أمريكا من إيران.. ماذا تقول أنت؟! هل ستخرج "إسرائيل" من إيران وتطرد نظام الشاه المتجذر في الحكم والمؤسسات والأمن والاقتصاد والإعلام؟! هذا هدف غير واقعي، وهذا جنون وخيال وسراب وبالتالي فأنت تبحث في عالم المثاليات). وقد واجه الإمام هذا التشكيك وكان يؤكد على أنه يحمل هدفاً واقعياً ويقول للناس ــ وهو وحيد حينذاك: (نعم يمكن أن يتحقق كل ذلك بالتوكل على الله.. بسواعدكم وصمودكم سنتمكن من أن نقطع أيدي أمريكا عن إيران وسنطرد الصهاينة من بلادنا، وسوف نسقط هذا النظام ونطرد الشاه من أرضنا). لذلك، كانت مدرسة الخميني هي المصداق في التجربة الذي تبنته المقاومة الإسلامية في لبنان منذ سنة 1982 عندما ارتفع الهدف الذي يقول: نريد أن نطرد الاحتلال من أرضنا بلا قيد أو شرط وبلا ضمانات وبلا مكافآت وجوائز. وكان كثيرون يقولون هذا هدف غير واقعي، هذا خيال وجنون وسراب، لكنه في الحقيقة كان ايمانا ليس فقط بأنّ ما يقوم به المجاهدون هو تكليف شرعي لأنه دفاع عن حقوق مسلوبة وهو التزام أخلاقي وانساني، لأنه مسؤولية ذاتية تستوجب الإخلاص والسعي والمثابرة ولأنه أيضا مسؤولية جماعية هدفها حماية البيئة وصونها من كل أنواع الاختراقات المدمرة. نشأت هذه البيئة الحاضنة بفضل تكاتف وتضامن ابناءها وبسبب وحدة الحال والمصير. وعليه، لم تختلف الانتماءات بين منتسب ومؤيد فكلاهما ساهم في بناء المقاومة وفي نشر ثقافة الجهاد والانتصار. أمّا المستفيدون فهم ذاتهم المشاركون والمساندون، استفادوا من إنجازات المقاومة لأنها أولا خلقت لهم بيئة امنة، ولأنها حققت جزءا من حلمهم بوطن، عندما استردت الأراضي المسلوبة والمحتلة. من هنا يأتي الحديث عن حماية الوجود، وهو عبارة عن مسار بدا بتحرير الأرض وحماية الحدود ومساعدة ومساندة البيئة المستهدفة من قبل العدو على تخطي كل العقبات من إعادة اعمار الى وسائل التكافل والرعاية وغيرها، ليتطور الى سياسة متكاملة أسس لها حزب الله بتوازن رعب مع العدو، لتضع بيئة المقاومة في مستوى دفاعي اول مقابل بيئة العدو. دفعت المقاومة اثمانا كثيرة وتضحيات، لكنها بالمقابل صنعت املا بوطن ليس فقط لبيئتها الحاضنة وانما لكل الشعب اللبناني، بل صنعته لكل شعوب العالم المستضعفة. انه الامل الممكن، الذي تحقق بجانب كبير منه في انتصارات المقاومة المتتالية، في مواجهة عدو لا يعرف حدودا ولا دينا ولا قانونا ومن هذا المنطلق، أصبح المستحيل ممكنا، لان المقاومة نجحت خلال عقود من الزمن ومنذ أن تأسست في تحقيق جزء من مشروعها وهو التأسيس لمجتمع مقاوم وقادر على الصمود والمواجهة، ثم التأسيس لمشروع ردع متكامل قادر على كسر كل مشاريع الهيمنة والاستعمار.

اليوم، اصبح حزب الله بإرادته او بدون ارادته وجها لوجه مع الولايات المتحدة الامريكية، وصارت الحرب التي يخوضها أشدّ ابتعادا عن لبنانيتها المباشرة رغم ارتباطها بحصيلة لبنانية، فلم تكن ثمة حاجة للشرح بأنه يكفي لنجاح الحرب الامريكية استرداد إسرائيل صاحبة المشروع الاستعماري مقدارا من القوة يتيح لها العودة الى الحروب والعدوان، وهذا وحده سيكون كافيا لوضع لبنان تحت منظار التصويب، كما كان كافيا أن تعتبر واشنطن أن اخراج خصومها الإقليميين من المشهد شرط لسيطرتها  ونجاح مشروعها في الإمساك بمفاصل صناعة السياسة الدولية، والخصوم هم حلفاء المقاومة في سوريا وايران، ومن البديهي أن تتيقّن المقاومة من أن معادلة أمريكا هي أن الحرب على سوريا وايران تبدأ بحزب الله أو تنتهي به. كما كان طبيعيا أن يعتبر الفريقان، أمريكا وحزب الله، وهما يستعدان للتقابل وجها لوجه، أن مكانة إسرائيل وقوتها كأولوية أمريكية تمر بتوجيه ضربة قاصمة لحزب الله، وان كل ثبات لحزب الله بوجه إسرائيل وحروبها هو إصابة بالغة للمشروع الأمريكي الذي ترجل مباشرة لخوض الحروب.

يقينا أنّ اغلبية مكونات البيئة الحاضنة هم مؤيدون لحزب الله ويثقون به وبسياساته، لكن داخل هذا الجو المؤيد والواثق تبرز شريحة لا تؤيد البعض من خياراته في السياسة الداخلية او بالحد الأدنى تنتقد البعض من السلوكيات والخيارات تجاه بعض الملفات المعقدة سواء تلك المتعلقة بالتوجهات الاقتصادية او المتعلقة بالاحتياجات المعيشية والخدمات أو حتى بعض المشاكل الاخرى. هم لا يشكّكون في الحزب وخياراته بقدر ما ينتقدون بعض السياسات التي يرون فيها مراوحة او دبلوماسية في التعامل، او محاولة لإرضاء بعض الحلفاء او الشركاء داخليا. ولكن من يعرف حزب الله وسياسة القيادة فيه يدرك تماما ان هؤلاء قوم لا يساومون على حقوق الناس ولا يجيرون الباطل ولو كلفهم ذلك خسارة الكثيرين. إذا من اين يأتي اللوم والعتب، ربما من بعض التجاوزات هنا او هناك التي يرتكبها بعض المحسوبين على بيئة المقاومة، وهذا لا يرتبط لا بعقيدة الحزب ولا بخياراته بل بضعف بعض الافراد او حتى الجماعات امام مغريات وسلوكيات قد توصلهم الى ارتكاب الأخطاء بلا حدود... ولأننا امام حزب متسامح ومتصالح مع نفسه وبيئته فهو جدير وقادر على احتواء الجميع.

تصنيف اتجاهات الرأي العام في بيئة المقاومة من الازمة الحالية

تتنوع توجهات الراي العام في بيئة المقاومة من الازمة الحالية، فيظهر في أوساطها من ينتقد سياسة حزب الله في سلوكه وكيفية تعامله مع الازمة، ويظهر من يطالب حزب الله بالحلول التي تفوق أحيانا امكانياته كحزب او حتى كقوة من ضمن قوى سياسية كثيرة في لبنان، ليس لأنه غير قادر على تلبيتها، وهو يعمل واقعيا على تلبيتها بكل الوسائل والإمكانات اجتماعية كانت او صحية او خدماتية، بل لأنها مطالبات، من المفروض ان تكون ضمن حزمة اعمال الحكومة والدولة وليس جهة كحزب الله. ولأنّ حزب الله يدرك جيدا معنى الاستهداف لبيئته وأهدافه بعيدة المدى، كرّس كل الإمكانيات المتاحة لمعالجة الكثير من النواقص والمشاكل. بل في أحيان كثيرة استخدم استراتيجية مقاومة الحروب، لأنه يدرك تماما ان سياسة الحصار المفروضة عليه وعلى بيئته هي احدى أدوات الحرب وأبشعها وأكثرها ايلاما وتأثيرا. لذلك استنفر كل طاقاته لمواجهتها ولكسرها او بالحد الأدنى التقليل من مفاعيلها المدمرة لمجتمع عانى الكثير من ويلات الاستهداف والحروب المباشرة. عندما تخرج أصوات منتقدة او معاتبة، لا يشكّل هذا الامر عائقا امام حزب الله، فصراخ الناس يمكن معالجته بالاحتواء والتقدير وخلق فرص الحل لتجاوز المحنة ومعالجة اثارها. ليس سرّا القول بأن حزب الله لم ينجح فقط عسكريا في مواجهة كل أدوات الاستهداف لقدراته من قبل الصهاينة والامريكيين، بل هو بارع حق في احتواء الناس، واحتواء مشاكلهم وحاجاتهم ومتطلبات المرحلة الصعبة التي يمرون بها. لأنه باختصار يضع بيئته كأولوية، ليست فقط لأنها البيئة الحاضنة لمشواره المقاوم، بل لأنها المنبع الأساس. ان العلاقة العاطفية الثابتة بين الحزب وبيئته وعلى اختلاف مواقفها من بعض القضايا أمر لم يدرك الأمريكي بعد متانته وعمقه لذلك، كلما حاول العمل على اختراقه واستفزازه للتحريض على الحزب، كلما شدّ عصب الارتباط أكثر، وكلما استنفر ادواته للتشويش والتشويه والمبالغة في توصيف الوضع، كلما تمرد المتألمون والموجوعون على سفاهته السياسية وانحازوا لعرين مجدهم وقوتهم وهو حزب الله.

في تشخيص الحالة، لابد أولا من الاعتراف بأنه من الطبيعي وجود طرف او أكثر يرى بوجود خلل في أصل النظام السياسي. هنا، من المنطقي عدم انتظام عجلة الحلول السياسية او الإدارية، ما دام الحلّ يكمن في أصل ذلك النظام وما قد أفرزه من مجموعة حاكمة لا تلبي التطلعات العامة للجمهور. لكن نظرا للتعقيدات الكثيرة التي يطرحها موضوع إعادة النظر في النظام السياسي في لبنان، طرح البعض من الفرقاء وعلى رأسهم فريق المقاومة والمتمثل في الفريق الشيعي وجملة من الأحزاب والنخب، وتجنبا للدخول في اشتباك مع الاخرين، دعوة لرسم جملة من الأوليات للبحث عن حلول تتجاوز نقاط الخلاف وفق المفهوم السياسي الى حلول عملية قادرة على اختراق الازمة ولو بالحد الأدنى التخفيف من اثارها وتداعياتها الخطيرة ليس فقط على بيئة حزب الله بل على كل المجتمع اللبناني.

يعتبر حزب لله أن الأزمة اللبنانية هي نتاج طبيعي لأمرين رئيسيين؛ الأول هو عدم الارتكاز على عناصر القوّة المتوفرة كعوامل وطنية جديرة بإبعاد شبح الأزمات أو التقليل من مفاعيلها وهو بدون شك صانع هذه القوة ويدرك تماما ان استثمارها لبناء الدولة وحمايتها من التدخلات الخارجية وخاصة الامريكية ممكن بل واجب، والآخر عدم تفعيل ما يلزم من الرؤى الاستراتيجية التي يتم من خلالها تحديد المهام الوطنية والعمل وفقها، بعيداً عن المهاترات ولغة التخوين الدارجة! لكن يبدو أن هذا التصور لم يلاقي الاجماع الكاف ليتحقق، فالمنتقدين بات عددهم في ازدياد يوما بعد يوم، وهم لا يتوقفون عن تحميل حزب الله جزء من الازمة بل ربما أحيانا الازمة كلها. فبين من ينتقد الحزب لانه لم يتخذ إجراءات استعجالية لإنقاذ الناس وحل مشاكلهم، وبين من يتهمه بالصمت والسلبية، ومن يشير الى تغطيته للفاسدين او بالحد الأدنى عدم التصويب عليهم، مساحة كبيرة، وربما إذا أخذنا هذا الانتقاد على محمل حسن النية، نقول بانه صادر عن محبين وحريصين وليس حاقدين وموتورين، لكن الواقع يظهر أحيانا أن المنتقدين هم دعاة فتنة ودعاة قطيعة وانقسام وحرصهم الوحيد ليس على مصلحة البلد والبيئة وانما على مصالحهم وعلى علاقاتهم بمشغليهم المتربصين بالمقاومة وانجازاتها.

مطالبة حزب الله بالتدخل لحل الازمات، مسألة تستحق النقاش فهو وعلى الرغم مما يتمتع به من قوة حضور وتأثير ونفوذ على المستوى الداخلي والإقليمي الا انه لم يوظف هذه القوة في يوم من الأيام داخليا، بل لم يسعى لذلك وهو الذي يمتلك كل المقومات. كان دوما يسعى للاحتفاظ بمكانته كقوة سياسية وكجزء من مكون سياسي كبير، حافظ على التلون والتنوع الذي يتمتع به النظام اللبناني، ولو ان الكثير من منتقديه يذكروننا دوما بطروحات حزب الله في بدايته التي كانت تدعو لإقامة دولة إسلامية وكانت ترى انها الحل الأمثل للبنان، لكن ينسى البعض ان هذه الطروحات وان صدرت عن الحزب فعلا وعلى لسان قياداته في فترة من الزمن الا انها لا يمكن ان تكون محل تطبيق اليوم. ولأننا نتحدث عن حزب الله فلابد لنا من ان نعرف بانه نجح في التأقلم مع المتغيرات والتطورات حواليه، وقد علمته معارك التحرير لأرض الجنوب، ان يكون كريما ليس فقط بتضحياته التي قدمها ولا يزال، وانما بفضل حرصه على ان لا يكون جسما غريبا في مشهد سياسي مربك او متغير. عمل حزب الله على التغيير والتطور في طروحاته لتكون أكثر ملاءمة لسياساته في المستقبل، فتطور خطابه ورسم سياسات وتصورات قادرة على التأقلم مع مجتمع متنوع ومختلط كالمجتمع اللبناني بعيدا عن لغة الفردانية والتوحش في السلطة والتبجح بالسلاح وفائض القوة الذي يمتلكه، وكان ولا يزال عنصرا أساسيا ومشاركا في منظومة سياسية هو اول منتقديها وأول المطالبين بإصلاحها ومحاربة الفساد والاختلالات فيها.

من هنا نقول، نحن امام حزب يمتلك كل مقومات النفوذ والهيمنة الكاملة لكنه لا يستخدمها، لان خياراته مبنية على قواعد أخلاقية وشرعية وإنسانية ترفض كل سياسات السيطرة والاحتكار للسلطة واستغلال اوجاع الناس وازماتهم. ولأنه وفيّ لجملة من المبادئ والخيارات وهو ملتزم بها، يوزعها على منتسبيه وفقا للتكليف والواجب والمسؤولية.

يدرك حزب الله ان الدخول في معترك السياسة له ثمن، فالسياسة ليست فن الممكن فقط بل هي القدرة على التلوّن واستغلال الثغرات واختراق المؤسسات والمنظومات لتحقيق مصالح معينة قد تكون ضيقة وقد تكون واسعة النطاق، لكنها تبقى مصالح ربح وخسارة تصرف على حساب مبادئ المجموعة الضعيفة لترسم صورة بشعة من الاحتكار والاستغلال والتسلط والهيمنة والمحسوبية. ووفقا لكل احتمالات الخطأ لم يخفي حزب الله الاخفاق في بعض الملفات لأنه يقف في كثير من الأحيان في حقل مليء بالألغام الطائفية والمذهبية التي تعطّل الإصلاح بل تمنعه في أحيان كثيرة، وهو هنا يتصرف بواقعية نظرا لما يتمتع به من مصداقية وشفافية، ولأنه لم يتعود الكذب على الناس ولا تقديم الوعود المستحيلة ولا استغلال دم الشهداء والمضحين لتمرير مصلحة هنا او هناك.

يدرك الخصوم والاعداء لحزب الله أن بيئته الحاضنة وعلى الرغم من تذمرها وانتقادها وهلعها بسبب الازمة الحالية وحالة الحصار المفتعل بهدف الضغط عليه لتغيير سياساته، لن تتخلى عنه ولن تتركه. باختصار البيئة الحاضنة هي ذاتها ولن تتغير، تتذمر وتشتكي وتعلي الصوت صراخا من وجع الحصار لكنها لن تتخلى عن قيادة جامعة، يدرك ابناءها انها الدرع الوحيد الحامي لهم من أعداء الداخل والخارج. يبدو ان دواليب الحصار والحرب الاقتصادية التي تستهدف حزب الله بالدرجة الأولى وبيئته قد وصلت الى نهايتها، بل قد فشلت وسقط معها كل طابور التعتيم والتشويه والتضليل الداخلي، وهذا الامر سيكون بالتأكيد سببا إضافيا لشدّ العصب حول قيادة حزب الله وخياراتها. من هنا ندرك ان العلاقة العاطفية بين قيادة حزب الله وبيئته الحاضنة علاقة متينة رغم محاولات تصوير المشهدية بشكل مختلف من بعض الخصوم والاعداء. لن يتوقف أبناء هذه البيئة عن تأييد قيادتهم ولا عن تأييد خياراتها ولا سياساتها، انه سر الثقة الثابتة والوعد الصادق الذي لن يتأثر وان حاول البعض تطوعا او تحريضا ضرب مكوناته من هنا او هناك.

التوظيف المعادي لهذا التنوع

بدا العمل أمريكيا وفق خطة محكمة لاستفزاز هذه البيئة بغرض تحريضها ودفعها للانقلاب على حزب الله، من خلال حملات تضليل واسعة مركّزة تلقي بكل الازمات والمشاكل التي يعيشها لبنان على حزب الله وسلاحه. انه العنوان الأساسي لكل سياسة الحصار التي تديرها أمريكا اليوم، فسلاح حزب الله هو المشكلة، وقوة حزب الله وحضوره الإقليمي وقدراته هي المشكلة، هذا ما يهدد إسرائيل وما يعرقل مشاريعها في المنطقة. لنرسم صورة هذا الكيان الفاعل الذي اسمه حزب الله بشكل بسيط، هم مجموعة من المجاهدين الاوفياء لخطهم العقائدي المرتكز على مبادئ الحق والقوة والعدل ونصرة المستضعفين ونصرة العقيدة والمذهب، وقيادة حكيمة وواعية ومؤمنة وصادقة وشفافة وامينة، وبيئة حاضنة بكل تصنيفاتها التي عرضناها، وتناقضاتها وتراكماتها واختلالاتها لكنها صامدة وصابرة. وعلى قاعدة سلم سلاحك وصواريخك الدقيقة تسلم ويسلم شعبك، يجيب حزب الله بأن الحصار وتجويع الناس وقتلهم لن يثني المقاومة عن مشروعها، ولن يغير توجهاتها، ولن يسقط منظومتها، والاهم من كل ذلك لن يحمي إسرائيل، ولن يحمي المصالح الامريكية. وعلى قاعدة تحويل التهديد الى فرصة، نجح حزب الله في كل معاركه العسكرية على الرغم من ضعف الإمكانات والتضحيات الكبيرة التي قدمها امام ترسانة حربية إسرائيلية متطورة مدعومة أمريكيا. كسر حزب الله قاعدة التفوق عند الإسرائيلي ونجح في تثبيت قواعد اشتباك وردع استراتيجي عجزت عنها الجيوش العربية في حروبها مع الكيان سابقا. ثبّت حزب الله الهوية وخارطة انتصار انتشرت على عمق الهوية العربية والإسلامية ليصل مداها من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق الى اليمن وشمال افريقيا وامريكا اللاتينية وغيرها. بات الأمريكي في حالة من الارباك، وبدأ التفكير في استخدام أدوات الارغام والضغط على حزب الله وبيئته أكثر أهمية من أي نزاع عسكري غير محسوب النتائج. وفشل الحصار، على الرغم من قساوته، فشلت كل ادواته، وبات الحل الوحيد امام الأمريكي وزمرته هو الركون الى الفوضى في الشارع بتحريك الأدوات (NGO`s) وإدارة حملات التشويه والتضليل الإعلامي لإرباك البيئة الحاضنة واستفزازها وتسليط الضوء على الاختلالات هنا او هناك. والاهم من كل ذلك، إعادة سيناريو 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري باتهام حزب الله بالضلوع في انفجار 4 اب2020 والذي يبدو انه سيكون مادة دسمة للاستهلاك والتشويه والتخوين والفبركة. يخطئ من يظن ان الاتهام سيغير شيئا، على العكس تماما لن يخدم الا المجرمين الحقيقيين الذين ستضيع أسماءهم في هذا الاتهام الباطل والمشين بحق حزب الله. انها الفوضى المدروسة والتي يسعى الأمريكي لاستخدامها الان عله بذلك ينجح في اختراق بيئة حزب الله وحثها على التمرد الذي يعمل على توظيفه في الانتخابات المقبلة. بدا الحديث عن انتخابات نيابية مبكرة وهو مطلب امريكي-فرنسي-سعودي بامتياز ولذلك يطالبون بتشكيل حكومة انتخابات لا حكومة حلول، فالأمريكي يطمح لان تكون هذه الانتخابات المنتظرة مفتاح تغيير شامل لموازين القوى الداخلية، أي تفكيك الرابط بين حزب الله وحلفائه في الداخل، وتحجيم دوره السياسي مستقبلا استعدادا للانقضاض عليه. لكن يبقى السؤال الأهم ما الذي يريده الأمريكي من هذه الانتخابات؟ على الرغم من المحاولات الكثيرة التي قامت بها جماعات (NGO`s)والتي نجحت نسبيا في اختراق البيئة المسيحية، ومع تدخل بعض القوى الإقليمية الأخرى للتشبيك والاحتواء لبعض الجماعات (ذات الطابع الإسلامي خاصة) بهدف السيطرة والتأثير، مستغلة عزوف السعودية الحليف التقليدي لبعض الأطراف عن القيام بهذا الدور لحسابات خاصة لها علاقة بالتوجهات السياسية للسعودية اليوم وبالأزمات التي تواجهها على مستوى الإقليم،  يدرك الأميركي ان شدّ العصب داخل بيئة حزب الله اقوى من كل المحاولات، وان أبناء هذه البيئة خيارهم لن يتغير وان كل التصنيفات التي وردت حول من يؤيد ومن ينتقد ومن يشبّك مع الخصوم وغيرها، هي تصنيفات شكلية عاجزة عن تغيير النمطية والخيارات. في العمق كل هؤلاء هم بيئة حزب الله وهم عصبها الأساسي، ولن يخذلوها في الانتخابات، لان هذه الانتخابات هي جزء من معركة الوجود والاستمرارية، وعندما يخوضها مرشحون من بيئة حزب الله، بالتأكيد سيكون لها وقع ثابت ومؤثر بشكل مباشر ليس على من يشاركون في التصويت والاقتراع فحسب بل على كل المنظومة الشعبية والنخبوية داخل بيئة حزب الله وخارجها. اٍنّ استهداف حزب الله وبيئته الحاضنة مشروع امريكي-صهيوني بامتياز تلتقي فيه مصالح الطرفين مع أطراف إقليمية أخرى بات حزب الله أحد هواجسها الحقيقية نظرا لدوره في العديد من الملفات الإقليمية، والغريب أن الجميع يعترف بقوته وقدراته وبشكل غير مباشر بمشروعيته. لا يعترف الأمريكي بالفشل علنا في اسقاط منظومة حزب الله على الرغم من الأدوات والإمكانات المتوفرة لتحقيق ذلك، وعليه، يدفع نحو فوضى منظمة لإرباك حزب الله داخليا ودفع بيئته للانقلاب عليه. لكن الواقع يقول انه كلما اشتدت الازمة واشتد الحصار على حزب الله، كل ما التفت البيئة حوله وتمترس المنتقدون والرماديون قبل المؤيدون والمنتسبون حول قيادته الحكيمة. والحق يقال انه لولا مصداقية وشفافية قيادة حزب الله وحضور الأمين العام السيد حسن نصر الله حفظه الله والتي يعترف بها العدو قبل الصديق لما نجح في تثبيت القاعدة التي تقول بضرورة تحويل التهديد الى فرصة، فرصة للمضي قدما في تحقيق مشروع المقاومة الأساسي وهو إزالة إسرائيل من الوجود. انها القيادة التي برعت لسنوات وسنوات في إدارة الحرب النفسية على العدو بواقعية وصدق وشفافية، ولا تزال تمتلك كل الأدوات لكشف مشاريعه التدميرية وسياسات الهيمنة والسيطرة التي يعمل على تركيزها في بلد كلبنان، متناقض العبر والتصورات والتوجهات والخيارات.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب: د. سهام محمد




روزنامة المحور