الإثنين 23 كانون الثاني , 2023 03:25

السعي السعودي نحو سيطرةٍ إعلامية

غرفة تحكم تلفزيونية

بعد تأسيس المملكة العربية السعودية الحديثة، أصدرت الحكومة أول قانونٍ للصحافة عام 1959، شهد القرار نهاية المنابر الصحفية الانتقادية في المملكة، مما حظر نشر المعلومات التي تعتبر مخالفةً للعادات والتقاليد السعودية، أو تعزز "الانحراف، أو الإلحاد، أو المبادئ الهدامة". أعقب التشريع قانون الصحافة الوطني لعام 1964، والذي نصّ على أنّ بإمكان وزارة الإعلام إغلاق أي صحيفة أو طرد رئيس تحريرها إذا ما أعتبر ذلك في المصلحة العامة والبلاد، حيث أدت هذه الحملة إلى سجن ونفي الكتاب والصحفيين.

من ناحيةٍ أخرى، كانت تكنولوجيا البث الإذاعي واسع النطاق متاحةً في المملكة العربية السعودية في وقتٍ مبكرٍ من عام 1949، إلا أنّ تقدم البُنية التحتية الأولي كان بطيئاً في ضوء مقاومة المحافظين، سيما بسبب ارتباط الراديو بالموسيقى، التي يرفضها الزعماء المتدينون. وسرعان ما تبنى السعوديون المتحضرون أجهزة راديو الترانزستور، وبحلول منتصف خمسينيات القرن الماضي، قررت الحكومة السعودية تأسيس مجموعة من القنوات الإذاعية الوطنية في محاولةٍ لمواجهة شعبية البث الأجنبي.

وتماماً كحال الراديو، كان إدخال البث التلفزيوني الوطني إلى المملكة العربية السعودية بعيداً كل البعد عن العملية المباشرة. ففي البداية، واجهت الوسيلة الإعلامية مقاومةً شرسة من قِبل الزعماء الوهابيين شديدي التحفظ، الذين اعتبروا تمثيل جسم الإنسان بـ "غير الإسلامي"، ومع ذلك قيل إن الأمير فيصل بنفسه مفتونٌ بالتلفزيون، وفي عام 1963، أصدر مرسوماً ملكياً يسمح ببناء محطاتٍ تلفزيونية. بدأ بث التلفزيون الوطني عام 1965، ومع نهاية العقد آنذاك، وفي ظل حكم فيصل الذي توّج ملكاً عام 1964، كان هناك سبع محطات سعودية تبث، بالرغم من أنّ البث بدايةً اقتصر على تلاواتٍ للقرآن الكريم، إلا أنها لم تقدم محتوىً دينيًا فحسب، بل أيضاً استوردت برامج غربية.

ومع نمو الإيرادات النفطية في المملكة في سبعينيات القرن الماضي، تلقت شبكات الإذاعة والتلفزيون تمويلاً وتنميةً ضخمة، وسرعان ما تحول التركيز نحو وسيلةٍ لتصدير الإعلام السعودي إلى الجماهير الإقليمية. فعلى سبيل المثال، في عام 1978، وافقت الأسرة المالكة السعودية على إطلاق صحيفة الشرق الأوسط، وهي صحيفة تمولها السعودية ومقرها لندن بهدف أن تصبح "أول" مصدرٍ لأخبار "الوحدة العربية" والتي تتم طباعتها من مركزٍ إعلامي دولي.

وعندما أنشأت الجامعة العربية منظمة الاتصالات الفضائية العربية (عربسات) عام 1976، كانت المملكة العربية السعودية الممول الرئيسي، وكان يقع المقر الرئيسي للمشروع في العاصمة السعودية، الرياض. وبعد ما يقرب من العشر سنوات، أي في عام 1985، أطلقت عربسات، بنجاح، أول قمرٍ صناعي لها. وفي بداية تسعينيات القرن الماضي، أدركت الحكومة السعودية شعبية تغطية شبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية لحرب الخليج الأولى بين المشاهدين العرب، وقررت إطلاق شبكتها الخاصة لتنافس على جذب انتباه 300 مليون مشاهد عربي محتمل في الشرق الأوسط.

وفي عام 1991، تأسس مركز تلفزيون الشرق الأوسط (MBC) المدعوم من السعودية في لندن (نُقل بعد ذلك إلى دبي عام 2002)، مما سمح بأول بثٍ، على مدى 24 ساعة، للبرامج ذات التأثير السعودي من الخارج. وبعد عقدٍ من الزمان، أي في عام 2003، أسست MBC قناة العربية في دبي في الإمارات العربية المتحدة، التي أصبحت شبكة الأخبار الدولية الرائدة للمملكة العربية السعودية.

وخلال الربع الأخير من القرن العشرين، احتفظت المملكة العربية السعودية بقدسية المكانة الذليلة لوسائل إعلامها المحلية، بتنظيم مخرجاتها بشكلٍ أكبر وتقييد حرية التعبير. فقد جرّم المرسوم الملكي حول الصحافة والمطبوعات عام 1982، انتقاد الصحافة للأسرة المالكة أو السُلطات الدينية، في حين منع النظام الأساسي للحكم الصادر عام 1992، والذي نُشر في جريدة أم القرى، التي أصبحت منشورًا رسمياً، وسائل الإعلام من نشر معلومات يمكنها الإضرار بالأمن القومي أو تسبب الشقاق، كما منح النظام الأساسي للحكم السُلطات صلاحياتٍ واسعة لفرض الرقابة وفرض العقوبات على مثل هذه الأنشطة.

جاء انتشار الإنترنت للجماهير في المملكة العربية السعودية عام 1999 في وقتٍ متأخر نسبياً، إذ لم يُسمح استخدام المواقع الإلكترونية في السابق سوى في الجامعات وبعض الخدمات العامة. ومع ذلك، تم استيعاب التكنولوجيا بسرعة كبيرة إلى الحد الذي ارتفع فيه استخدام الإنترنت من ميلون مستخدم عام 2001 إلى 16,5 مليون مستخدم عام 2013. فقد تقبّل السعوديون المحافظون والليبراليون على حد سواء الاتصال الرقمي، إذ ذكرت قناة BBC في عام 2015 أن السعوديين يمثلون ما نسبته 10% من حسابات موقع فيسبوك و40% من مستخدمي تويتر النشطين في العالم العربي. ووفقاً BBC، تمتلك المملكة أيضاً أعلى استخدام لموقع يوتيوب للفرد الواحد، في جميع أنحاء العالم.

السعي السعودي نحو سيطرةٍ إعلامية

بدأ السعي السعودي نحو سيطرةٍ إعلامية، بشكلٍ جاد، في أعقاب الغزو العراقي للكويت عام 1991. آنذاك، كانت تحاول المملكة منع مواطنيها من معرفة مجريات الحرب، بالرغم من عدم تمكنها منع الناس من مشاهدة قناة سي إن إن.

وفي نفس العام، تم إنشاء مركز تلفزيون الشرق الأوسط (إم بي سي)، المملوك للقطاع الخاص. ولطالما اتبعت الشبكة خطوط الحكومة السعودية، تماماً كما هو حال الصحيفتين العربيتين المملوكتين لسعوديين، الشرق الأوسط والحياة.

التضييق على قناة الجزيرة

في عام 1996، تفوق ظهور شبكة الجزيرة الممولة من قطر، والتي أغضبت الأنظمة العربية، على المحاولات السعودية بالنفوذ الإعلامي. ولكن بدلاً من تبني إصلاحاتٍ ليبرالية أو الحدّ من القمع، فرضت الحكومة السعودية المزيد من القيود على حرية التعبير.

وخلال الربيع العربي، الذي هدد بإسقاط العائلة الحاكمة كما كان الحال في تونس ومصر وليبيا، أجرى آل سعود تعديلاتٍ على قوانين الإعلام في البلاد، فأي صحيفة تنتقد رجال الدين المدعومين من الدولة أو تُشير إلى التمييز ضد السعوديين الشيعة مصيرها الغرامة أو الإغلاق. وفي ذلك الوقت، تظاهر الشيعة في محافظة القطيف الشرقية ضد آل سعود مطالبين بالديمقراطية والإصلاحات.

كما حاول ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والذي صعد إلى السلطة في يونيو 2017، إغلاق قناة الجزيرة بفرض حصارٍ على قطر.

فقد قال ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي الإلكتروني، إن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت السعودية تحاصر قطر هو أنها لم تتمكن من شراء قناة الجزيرة أو الضغط على أمير قطر للحد من انتقاداته للأنظمة العربية.

وقال هيرست للجزيرة، تظن المملكة العربية السعودية أن بإمكانها شراء الإعلام هذه هي طريقة التفكير العربية التقليدية فيما يتعلق بوسائل الإعلام. فهم لا يعتقدون أن العالم العربي- وسبق أن صرحوا بذلك- مستعدون لحرية التعبير، وبالتالي يريدون السيطرة عليها، ويعتبر موقع ميديل إيست آي من بين وسائل الإعلام التي ترغب السعودية وحلفاؤها بإغلاقها.

قمع أباطرة الاعلام السعوديين

تمثلت خطوة محمد بن سلمان التالية بالاستيلاء على أصول أباطرة الإعلام السعوديين، بالرغم من أنهم لم يجرؤوا أبداً على انتقاد الأسرة الحاكمة.

بدأت حملة القمع، التي تم تقديمها كتحقيقٍ ضد الفساد، في نوفمبر 2017، عندما أمر محمد بن سلمان بإلقاء القبض على العشرات من أفراد العائلة المالكة، وكبار المسؤولين ورجال الأعمال الأثرياء. وفي النهاية، تفاوض العديد من المعتقلين على إطلاق سراحهم بالتخلي عن ممتلكاتهم. وكان أبرز المعتقلين وليد الإبراهيم، رئيس مجلس إدارة إم بي سي، التي لا تزال واحدةً من أكثر الشبكات الخاصة تأثيراً في العالم العربي.

وقال مصدر في إم بي سي لرويترز إن الحكومة حاولت شراء الشبكة الإعلامية قبل عامين، إلا أن الإبراهيم كان يعتقد أن السعر المقترح منخفضٌ للغاية. وقال المصدر ذاته إن الحكومة وضعت يدها على الشبكة اليوم مجاناً.

كما اضطر الملياردير السعودي، الأمير الوليد بن طلال إلى تسليم أصوله، بما في ذلك شبكة روتانا. كما تخلى صالح كامل، الذي يمتلك شبكة راديو وتلفزيون العرب (أي أر تي) الأقل نفوذاً، عن أسهمه في تلك الشركة.

وقالت كريستين ديوان، وهي باحثة مقيمة أولى في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، لصحيفة فاينانشيال تايمز، "إن احتمالية وضع عمالقة الإعلام السعودي والعرب تحت مظلة حكومة موحدة أمرٌ مقلق، يُثير هذا المخاوف من أن تنوع الرأي والتغطية ستتعرضان للمزيد من التقليص. من الواضح أن محمد بن سلمان عازمٌ على التحكم في الرسالة بينما يجري عملية إعادة هيكلة جذرية للدولة والاقتصاد السعوديين".

وقال هيو مايلز، مؤلف كتاب "الجزيرة: كيف تحدت قناة عربية العالم"، إن سعي المملكة العربية السعودية للسيطرة على وسائل الإعلام ما هي إلا وسيلة لممارسة قوتها الناعمة في المنطقة. وشدد على أن معظم القنوات المملوكة للسعوديين لا تحقق أرباحاً، مشيراً إلى الدوافع السياسية وراء مصلحة الحكومة في شراء أو الاستيلاء على وسائل الإعلام ذات النفوذ.

وقال مايلز لمركز الدراسات الأمنية، الذي نشر تقريراً عام 2018 حول هيمنة المملكة العربية السعودية على الإعلام، "إن القناة الإعلامية طريقة اقتصادية للغاية للتأثير على الناس، إذ تحصل على أعلى قيمة لقاء المال المدفوع، وأرخص بكثير من الأسلحة. يتعلق الأمر بالتحكم بالخطاب، وبالنسبة للسعوديين يتعلق الأمر بتولي المسؤولية."

كما ذكر التقرير أن هيمنة المملكة العربية السعودية على وسائل الإعلام تؤثر سلباً على الأخلاقيات الصحفية، حيث تفتقر إلى التغطية المتوازنة والدقة والتقارير الاستقصائية. وبدلاً من ذلك، يميلون إلى شيطنة أعداء المملكة العربية السعودية، مثل إيران وحلفائها، في حين أن النقد الموجه إلى المملكة صامت.

رشوة واستمالة الصحفيين الأجانب بالأساليب الايجابية أو السلبية

الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو أن السعودية غالباً ما حاولت رشوة أو استمالة صحفيين أجانب لرسم صورةٍ إيجابية للأسرة الحاكمة. ففي برقيةٍ غير مؤرخة من ويكيليكس، اقترحت السفارة السعودية في برلين توظيف صحفيين ألمان لكتابة مقالاتٍ دعائية تؤيد المملكة، وكان يتم دفع مبلغ 7500 يورو للصحفيين لكتابة المقالات وترجمة الكتب من العربية إلى الألمانية، بهدف توزيعها في المناسبات الثقافية.

والأسوأ من ذلك هو أن الصحفيين الذين يرفضون الالتزام بواجبات العلاقات العامة هذه للمملكة العربية السعودية، غالباً ما يتم تشويه سمعتهم أو تهديدهم، كما كشف تسريبٌ آخر غير مؤرخ من ويكيليكس أن مراسل صحيفة فاينانشال تايمز اضطر إلى مغادرة الرياض لنشره ما اعتبرته الدولة السعودية أكاذيب، ووفقاً للتسريبات، نظر آل سعود في اتخاذ إجراءاتٍ قانونية ضد الصحيفة والصحفي بسبب انتقاده للحكومة والمسؤولين.

وفي مقالٍ نُشر على الموقع الإلكتروني العربي الجديد، كتب جايمس دورسي، وهو خبيرٌ في شؤون الشرق الأوسط، أن الفضاء الإعلامي الوحيد الذي لم يشتريه أو يُسيطر عليه محمد بن سلمان هو وسائل التواصل الاجتماعي. فبعد أن أعلن ولي العهد عن رؤيته 2030، التي يتعهد بها بالحد من اعتماد المملكة على النفط، كثر النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول ما إذا كانت الرؤية قابلة للتطبيق.

واليوم، خفت حدة هذه النقاشات، ذلك أن أي شخصٍ يجرؤ على انتقاد سياسات محمد بن سلمان يعرض نفسه لخطر الاعتقال، تماماً كما ظهر هذا جلياً بإلقاء القبض على العديد من الشخصيات العامة- بمن فيهم نشطاء، وصحفيين، ورجال دين- في حملةٍ سابقة في سبتمبر 2017. وأضاف دورسي إن الحملة على المعارضة إلى جانب قبضة محمد بن سلمان على الإعلام، صعدّت من الحرب الإعلامية مع قطر بشكلٍ لا يمت بصلة للصحافة.


المصدر: غرب آسيا




روزنامة المحور