الأربعاء 12 تشرين ثاني , 2025 11:28

الكابلات البحرية في البحر الأحمر: ورقة ضغط استراتيجية بيد صنعاء

توجهت الأنظار بشكل متزايد إلى البحر الأحمر في الآونة الأخيرة، كأحد أبرز مسارح التوتر الإقليمي، بعدما تحوّل ملف الكابلات البحرية تحديدا إلى قضية سياسية وأمنية تتجاوز بعدها التقني. ففي مطلع أيلول/سبتمبر، سُجّلت سلسلة حوادث أدت إلى تعطّل كابلات الإنترنت التي تربط  القارتين الآسيوية والأوروبية، ما أثار قلقاً دولياً حول استقرار البنية التحتية الرقمية الحيوية. إلا أن هذا القلق لم يقتصر على البعد الاقتصادي، بل سرعان ما تداخل مع الصراع السياسي والعسكري القائم في اليمن، حيث أعلنت صنعاء أن معالجة المسألة التقنية لا يمكن أن تُفصل عن الاعتداءات التي استهدفت قادتها ومواقعها الحيوية في آب/ أغسطس الماضي.

من وجهة النظر اليمنية، لا يمكن الحديث عن إصلاح أو صيانة تحت إشراف خارجي في ظل استمرار الضربات الجوية التي نفذها كيان الاحتلال ضد قيادات يمنية. هذا الترابط بين المشهدين العسكري والتقني جعل من الملف مسألة سيادية بامتياز. فبحسب تقارير استخباراتية نقلت قسماً منها Intelligence Online، عملت وساطات عُمانية على فتح قنوات تفاوض لإصلاح الكابلات تحت إشراف فني مشترك، قبل أن تؤدي الغارات إلى انهيار الثقة وتعليق صنعاء مشاركتها في أي مباحثات. بالنسبة لصنعاء والقوات المسلحة اليمنية، لا يمكن القبول بمسارات فنية في بيئة ما زالت تهدد السيادة الوطنية، بمختلف الطرق.

هذا الموقف يُترجم ما تعتبره صنعاء "حقاً دفاعياً وسيادياً" في التعامل مع البنية التحتية داخل نطاقها الإقليمي. فهي ترى أن أي تفاوض لا يراعي هذا البعد السيادي يصبح أداة نفوذ أو اختراق أمني أكثر منه مساراً تقنياً. بالمقابل، تُعبّر الدول الغربية وشركات الاتصالات الدولية عن مخاوفها من اتساع نطاق الاضطراب في حركة الإنترنت العالمية، خاصةً أن أكثر من 17% من الاتصالات الرقمية العابرة للقارات تمر عبر البحر الأحمر. من هنا نشأ تضارب في أولويات الأطراف: بين سيادة اليمن على مياهها وأمنها، وبين حرص القوى الكبرى على استقرار الشبكات التي تخدم مصالحها الاقتصادية والتجارية.

البيانات الصادرة عن صنعاء تعكس تصوراً واضحاً لطبيعة هذا التناقض. فهي تعتبر أن الاهتمام الدولي المفاجئ بالكابلات يكشف ازدواجية في المعايير، إذ تُستنفَر الطاقات لحماية مصالح رقمية غربية، بينما تُتجاهل الخروقات العسكرية والإنسانية التي يتعرض لها اليمنيون والفلسطينيون على حد سواء. ومن هذا المنظور، ترى صنعاء أن استخدام ملفات حساسة كالكابلات البحرية أو الملاحة في البحر الأحمر ليس تهديداً للبنية العالمية، بل أداة ضغط متكافئة في مواجهة العدوان والحصار. فحين تكون القنوات القانونية والسياسية مغلقة، تصبح أوراق الردع غير التقليدية وسيلة لإعادة التوازن في ميدان الصراع.

في الأسابيع الأخيرة، برز تحرك أوروبي جديد لإحياء المفاوضات. الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً بمخاوف من اتساع نطاق الانقطاع وتأثيره على الاقتصاد الرقمي، بدأ اتصالات بالتنسيق مع مسقط لطرح آلية مراقبة مشتركة لعمليات الإصلاح، تضمن الشفافية وتمنع أي استغلال عسكري أو استخباراتي للمشاريع. غير أن صنعاء تربط نجاح أي مبادرة بموقف أوروبي واضح من كيان الاحتلال ووقف الاغتيالات، معتبرة أن الوساطة لا يمكن أن تكون تقنية بحتة في بيئة سياسية متوترة.

يتجاوز ملف كابلات البحر الأحمر الإطار التقني إلى صلب الصراع حول مفهوم السيادة في المنطقة. فصنعاء تحاول فرض معادلة جديدة تعتبر أن التحكم في الفضاء الرقمي والبنية البحرية جزء من أدوات الردع الاستراتيجية، لا مجرّد خدمة عالمية محايدة. وفي المقابل، يسعى المجتمع الدولي إلى الحفاظ على استقرار النظام الاتصالي العالمي دون الانخراط في نزاعات محلية يرى أنها تعيق المصالح الكبرى.

بالتالي، فإن أي مقاربة ناجحة تحتاج إلى موازنة دقيقة بين الضمانات الفنية والاعتبارات السيادية. فالإشراف المستقل، والحماية القانونية لعمليات الصيانة، وضمان عدم استخدام المشاريع لأغراض سياسية، كلها شروط ضرورية لبناء الثقة واستئناف التعاون. أما تجاوز البعد السياسي، أو تجاهل ما تعتبره صنعاء "حقوقاً وطنية"، سيجعل البحر الأحمر ساحة مواجهة جديدة في حرب متعددة المستويات تمتد من الميدان العسكري إلى البنية الرقمية، ومن حدود اليمن إلى شبكات العالم بأسره.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور