الأربعاء 12 تشرين ثاني , 2025 03:23

من لم يزرع أرضه كيف سيحميها؟

الاتكالية أصل الضعف السياسي

في بلدٍ يستورد خبزه، دواءه، وقراراته السياسية، يصبح الحديث عن السيادة ترفاً لا أكثر. لبنان اليوم نموذج حيّ لدولة فقدت عناصر الاكتفاء الذاتي، ففقدت معه قدرتها على تقرير مصيرها. في هذه الحالة يصبح السؤال: "كيف يمكن لمن لم يزرع أرضه يوماً أن يصون سيادتها وأمنها ويقرّر متى يواجه أو متى يهادن"؟

ولدت هذه الذهنية التي اتبعتها الدولة اللبنانية منذ تأسيسها مجتمعاً هشّاً يعتمد على غيره في كل مفاصل حياته، من الطعام إلى الدواء، وحتى القرار. وعندما تعرضت الدولة اللبنانية للخطر وأصبح العدو على بعد أمتار ويخطط للانقضاض في أي لحظة، وجدت الدولة نفسها عاجزة عن المواجهة، لأنها لم تمارس بالأصل ثقافة الاعتماد على الذات -ما يتطلب جهداً وعملاً-، بل تعوّدت دائماً على انتظار الحلول السريعة المرسلة من الخارج. حتى لو كانت تبعات السياسات المعلبة أشد وطأة من ابتكار الحلول على يد ذات الدولة -إلا أنها يوماً لم تمارس هذا الدور فكيف ستمارسه بعد عقود وبتجربة معدومة تقريباً-.

النموذج اللبناني: دولة بلا أدوات

لبنان مثال صارخ على هذه الحالة. فمنذ تأسيسه، لم تُبنَ الدولة على أسس إنتاجية واقعية، بل على نظام خدماتي وريعي يعتمد على التحويلات والمساعدات والاستيراد. فلا زراعة فعلية قادرة على تأمين الأمن الغذائي، ولا صناعة ترفع الناتج المحلي، ولا سياسة اقتصادية تحمي السوق من الارتهان ولا حتى خطط دفاعية ترد المخاطر عن البلد.

هذه البنية جعلت لبنان دولة عاجزة عن تغطية أبسط احتياجات شعبها، ما رسّخ ذهنية الاتكال لدى المواطن والمجتمع معاً. وتتكشف حقيقة هذا الواقع المر حين تأتي الأزمات الكبرى لا سيما الحروب حيث يظهر أنه لا قدرة على المواجهة، ولا مؤسسات تملك مقوّمات الصمود.

وفي حالة الاستهلاك الكامل للدولة وهي تخوض ما لم يكن بحسبانها -علماً أننا لم نكن يوماً نعيش في عالم وردي يمنعنا من التفكير بأننا قد نصل لهذه المرحلة-، تنتقل التبعية من الاقتصاد إلى السياسة. فمن يستورد غذاءه وسلاحه وطاقته، لا يستطيع أن يقرر وحده متى يحارب أو متى يسالم. وتاريخ لبنان المعاصر مليء بالأمثلة على ذلك، إذ غالباً ما تأتي القرارات الكبرى بتأثير مباشر من الخارج، سواء من العواصم الغربية أو العربية، لأن مصادر التمويل والمساعدات تمر عبرها.

هكذا يصبح القرار الوطني مرهوناً بمصالح المانحين، ويُفرَض على الدولة أن تراعي (من يؤمن لها القمح) بدل أن تمارس سيادتها. أما الشعب، فبدل أن يطالب اللدولة بتغيير شامل لسياساتها التي أوصلته إلى هنا يذهب إلى تلفيق التهم -خلف أحزابه- وهذا لا يعالج جذور المشكلة، وطبعاً في الخلاصة يكون سبب كل هذه المشاكل المستشرية في الدولة "سلاح حزب الله".

سلاح المقاومة نموذج للاعتماد على الذات

وسط هذا العجز البنيوي للدولة، ظهرت المقاومة اللبنانية كمثال معاكس تماماً. فبينما عجزت الدولة عن حماية أرضها وحدودها، نشأت المقاومة من رحم الحاجة، لتؤكد أن من يعتمد على نفسه يستطيع أن يصنع معادلته الخاصة.

المقاومة لم تنتظر إذناً من الخارج لتدافع عن لبنان، بل صنعت قوتها بجهدها، وبنت توازن الردع الذي منع العدو من التمادي. لذلك، كان سلاحها وما زال يعكس فكرة الاكتفاء الاستراتيجي في الدفاع.

لكن المفارقة أن الدولة التي يفترض أن تحتضن هذه التجربة الوطنية، تعاملت معها كعبء، لأنها ببساطة لم تتعوّد على فكرة تحمل المسؤولية. فالدولة التي لم تزرع ولم تصنع، لا تستطيع أن تتقبّل منظومة تعمل بجهد وجد في ظل الكسل الغارقة هي فيه.

وبدل أن تتحمّل الدولة اللبنانية مسؤوليتها اليوم في حماية شعبها، نجدها واقفة في موقع المتفرج. تتلقى الرسائل الأميركية والإملاءات الخارجية، وتتعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية ببيانات شكلية.

هذا الموقف ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكم طويل من السياسات التي جعلت لبنان بلا عمق إنتاجي ولا قرار.

الاكتفاء طريق السيادة

في المقابل، يبرز نموذج إيران كحالة معاكسة تماماً. ورغم العقوبات والحصار المفروض عليها منذ عقود، استطاعت أن تعتمد على نفسها في الزراعة والصناعة والطاقة والعلم. بنت منظومتها الدفاعية من الداخل، وطوّرت برنامجها النووي كمعادلة ردع تحميها من الابتزاز الخارجي.

إيران لم تنتظر الغرب ليعطيها حلولاً جاهزة، بل خلقت حلولها. لذلك استطاعت أن تفرض نفسها لاعباً إقليمياً، وتقرر متى تفاوض ومتى تصعّد، لأنها ببساطة تزرع قمحها وتنتج سلاحها وتملك قرارها.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور