تكشف التحوّلات الإسرائيلية في الضفة الغربية، منذ اندلاع الحرب على غزة، عن لحظة فارقة في بنية المشروع الاستعماري، لحظة تنتقل فيها "إسرائيل" من إدارة الصراع إلى حسمه ميدانياً عبر ضمّ فعلي يتجاوز الاستيطان التقليدي إلى إعادة هندسة شاملة للأرض والسكان والسلطة. فما يجري لم يعد خطوات متفرقة أو إجراءات ظرفية، بل مشروع سياسي–أمني متكامل يسعى إلى تفكيك مقومات الوجود الوطني الفلسطيني وإغلاق نافذة الدولة الفلسطينية تاريخياً. ومن خلال تراكم أدوات القوة—القانونية، والاقتصادية، والميدانية، والبنيوية—تُنتج “إسرائيل” واقعاً متدرجاً يجعل الضفة جزءاً من المنظومة الإسرائيلية بدون إعلان رسمي، في أخطر مرحلة يشهدها الصراع منذ عقود.
تبيّن الدراسة المرفقة أدناه، أنّ الضفة الغربية تشهد منذ السابع من أكتوبر تسارعاً غير مسبوق في مسار الضمّ، يقوم على دمج التشريع بالاستيطان وبالعنف الميداني في بنية واحدة تهدف إلى فرض الحسم على الأرض. فالسياسات الإسرائيلية الراهنة امتداد لمسار استعماري قديم، لكنها اليوم انتقلت إلى مرحلة علنية وسريعة نتيجة بيئة إقليمية مضطربة وانشغال دولي بالحرب على غزة، ما خلق "نافذة تاريخية" تستغلها "إسرائيل" لتغيير قواعد اللعبة بالكامل.
على المستوى السياسي–القانوني، ضخّت الحكومة الإسرائيلية حزمة واسعة من مشاريع القوانين والقرارات التي تُشرعن البؤر الاستيطانية، وتوسّع صلاحيات الوزارات على الضفة، وتُخضع الأراضي الفلسطينية لمنظومة القوانين الإسرائيلية، مع مساعٍ واضحة لإلغاء ما تبقى من اتفاقيات أوسلو. وارتبط ذلك بموازنات ضخمة لبناء مستوطنات جديدة وشقّ طرق التفافية تُجزّئ الضفة إلى كانتونات معزولة.
أمّا ميدانياً، فتُنفّذ "إسرائيل" عمليات عسكرية واسعة النطاق تشبه نموذج غزة المصغّر، خصوصاً في جنين وطولكرم، مع استخدام الطائرات والدبابات وعمليات الهدم والاقتحام والاعتقال الجماعي، في موازاة تصعيد عنف المستوطنين لتعميق الضغط على التجمعات البدوية والريفية. وتُظهر أرقام المنظمات الدولية ارتفاعاً كبيراً في الهدم والتهجير والاستيلاء على الأراضي، بما يهدف إلى تفريغ المناطق الحيوية من سكانها.
وفي الجانب الاقتصادي–الإداري، تعمل "إسرائيل" على تقويض قدرة السلطة الفلسطينية على أداء مهامها، عبر حجز أموال المقاصة وتعطيل الاقتصاد ومنع عشرات آلاف العمال من العمل، ما يخلق حالة انهيار وظيفي تدفع نحو تفريغ السلطة من مضمونها وخلق فراغ سياسي–مدني تستثمره "إسرائيل" لتوسيع سيطرتها.
وتخلص الدراسة إلى أنّ هذه السياسات تُحدث عملية ضمّ فعلي تتجاوز السيطرة العسكرية إلى دمج الضفة في الهيكل الإداري والاقتصادي الإسرائيلي، مع تفكيك البنية المجتمعية لإجهاض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية. كما تشير إلى أنّ آثار هذه السياسات تمتد إلى تفتيت الجغرافيا، وإضعاف المؤسسات، وزيادة التبعية الاقتصادية، وتعميق الهشاشة الاجتماعية، مع تشجيع التهجير الصامت كخيار استراتيجي.
وتؤكد الورقة أن مواجهة هذا المسار تتطلب رؤية فلسطينية موحّدة واستراتيجية متعددة الأبعاد تشمل تعزيز الصمود المدني، واستثمار القانون الدولي، وتطوير أدوات ضغط سياسية واقتصادية، إلى جانب تفعيل تحالفات دولية وإقليمية قادرة على رفع كلفة الضمّ على "إسرائيل". فالمعركة في الضفة اليوم هي معركة وجود، وليست مجرّد صراع على الأرض.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ. إيمان رياض بديوي