الجمعة 14 تشرين ثاني , 2025 04:11

غزة بعد الحرب: جدل القوة الدولية وحدود التفويض والواقع السياسي

دبابة إسرائيلية في غزة

في خضمّ التحوّلات المتسارعة في ملف غزة بين الحرب والتهدئة، برزت مسألة تشكيل قوة دولية للانتشار في القطاع بوصفها إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. وقد ازدادت حدّة النقاش بعد تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 بأن وصول قوة الاستقرار الدولية إلى غزة بات وشيكاً، مؤكداً أنّ تنفيذ الهدنة يسير بصورة جيدة. هذا الإعلان أعاد تحريك النقاش حول مستقبل القطاع، وموقع القوة الدولية ضمن ترتيبات اليوم التالي، لا سيما أنّ تشكيلها يشكّل أحد البنود الجوهرية في خطة ترامب، وتحديداً في بندها الخامس عشر، الذي ينصّ على إنشاء قوة دولية (ISF) تنتشر في المرحلة الثانية من الهدنة.

توضح المسودة الأميركية لمشروع القرار، المقدّمة إلى مجلس الأمن بتاريخ 6 تشرين الثاني 2025، أن هذه القوة ستتولى مهام تثبيت وقف إطلاق النار، ضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل، وتأمين التنسيق الحدودي بين إسرائيل ومصر لمنع تهريب السلاح. كما تُكلَّف بتسهيل دخول المساعدات، ودعم عمليات إعادة الإعمار، والعمل جنباً إلى جنب مع شرطة فلسطينية جديدة خضعت لتدريب وفحص أمني، في إطار سعي دولي لتهيئة بيئة مستقرة تعيد تنظيم منظومة الحكم في القطاع.

ورغم أن فكرة نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة تُطرَح اليوم بوصفها جزءاً من اتفاق الهدنة، إلا أنّ جذورها تعود إلى الأشهر الأولى من الحرب. ففي آذار/مارس 2024، كشف موقع "واللا" أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت ناقش في واشنطن إمكانية إنشاء قوة عربية – دولية تتولى إدارة غزة وضبط الأمن فيها، وهو طرح قوبل حينها بتفاؤل محدود، مع تأكيد أميركي – عربي بأنّ أي تقدم فيه سيظلّ مرهوناً بمسار سياسي واضح، أبرز ملامحه القبول بحل الدولتين.

ومع بدء النقاش الحالي حول تطبيق خطة ترامب، برزت مؤشرات جديدة على توجه أميركي جدّي نحو تحويل الفكرة من مقترح نظري إلى واقع تنفيذي، تجلّى في زيارة رئيسة الاستخبارات الوطنية الأميركية تولسي غابارد لمركز التنسيق الأميركي في كريات غات، حيث كشفت أنّ نحو 16 دولة و20 منظمة غير حكومية تشارك حالياً في إطار مدني – عسكري لتعزيز الاستقرار في غزة. ومع ذلك، لا تزال مشاركة الدول العربية في القوة المستقبلية محاطة بالغموض، وسط اعتراض إسرائيلي متكرر على أي دور تركي.

وتمنح مسودة القرار المقترح مجلسَ السلام صلاحية إنشاء القوة الدولية تحت قيادة موحدة، على أن تُشكل من وحدات تساهم بها الدول المشاركة وفق بروتوكولات تنسيق لصيقة مع مصر وإسرائيل. وتشمل مهام القوة تأمين الحدود، ضبط الأوضاع الأمنية داخل القطاع، تنفيذ عملية نزع السلاح الكامل، ومنع إعادة بناء البنية العسكرية، إضافة إلى حماية المدنيين، تدريب قوات الشرطة الفلسطينية الجديدة، وضمان الممرات الإنسانية. ويُمنح هذا التفويض حتى 31 كانون الأول 2027 مع إمكانية التمديد بالتوافق مع إسرائيل ومصر والدول المشاركة. وقد أشارت شبكة CNN إلى أنّ إسرائيل عارضت بدايةً إشراف الأمم المتحدة على القوة قبل أن تتراجع تحت ضغط واشنطن، مع استمرارها في التأثير في صياغة القرار.

ورغم الانخراط الإسرائيلي في بلورة المسودة، فإنّ الموقف داخل الكيان ليس موحّداً. فغادي آيزنكوت وصف دخول قوات دولية إلى غزة بأنه "أمر سيّئ" يقيّد حرية الجيش، مع دعوة صارمة لمنع المشاركة التركية والعربية. كما انتقدت وزيرة الكابينيت أوريت ستروك غياب الشفافية حول تركيبة القوة وصلاحياتها، مطالبة نتنياهو بتقديم خطة واضحة. أما رئيس الحكومة، فأكد أن إسرائيل ستقبل فقط بقوات تحظى بموافقتها الكاملة.

على المستوى البحثي، تتباين التصورات الإسرائيلية حول جدوى القوة الدولية. فمعهد دراسات الأمن القومي يرى أن البيئة الإقليمية لا توفّر زخماً سعودياً أو إماراتياً نحو الانخراط العسكري، وأن إسرائيل تُعرقل أي دور للسلطة الفلسطينية أو لقطر وتركيا، ما يستوجب وفق المعهد بلورة خطة تدريجية من أربع مراحل تبدأ بالاستقرار الأولي وتنتهي بسيادة فلسطينية كاملة تحت إشراف رقابي دولي. ويشدد المعهد على أن نجاح الخطة يتطلب التزاماً أميركياً قوياً ومشاركة عربية محدودة ولكن فعّالة.

في المقابل، يُبدي معهد مسغاف تشككاً عميقاً في الفكرة، معتبراً أن الشرط الأساسي لنجاحها ـ وهو تخلّي حماس عن سلاحها ـ غير واقعي، إضافة إلى المخاوف من فجوات بين التفويض الدولي المحدود زمنياً وقدرة السلطة الفلسطينية على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. ويحذر من أن عدم معالجة هذه الثغرات قد يمهد لعودة حماس إلى السيطرة.

أما معهد ميتفيم فيرى أنّ القوة الدولية قد تشكّل خياراً انتقالياً ضرورياً في ظل غياب خطة إسرائيلية واضحة ورفض دولي لإعادة احتلال القطاع، مقابل استعداد فلسطيني محدود لتولي الإدارة دون ضمانات سياسية. ويقترح المعهد نموذجاً بثلاث مهام مترابطة: تثبيت الأمن وضبط الفصائل، إدارة الخدمات تحت إشراف دولي، ثم إطلاق عملية إعادة إعمار واسعة.

وفي سياق المقارنة مع تجربة اليونيفيل في جنوب لبنان، ترى تحليلات إسرائيلية أنّ التفويض المقترح لغزة يأتي في ظروف أكثر ملاءمة، إذ إن القوة المقترحة ليست أممية مباشرة، بل تتألف من دول ذات سيادة، بما يمنحها هامش التزام أكبر. غير أنّ هذه المقارنة لا تلغي ضرورة استخلاص الدروس من إخفاقات نموذج اليونيفيل، خصوصاً في ما يتعلق بقواعد الاشتباك، آليات التفتيش، والقدرة على ضبط الفصائل المسلحة. ومع ذلك، أشارت تقارير إسرائيلية إلى أن القوة الجديدة لن تعمل وفق المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة، ما يثير تساؤلات حول مدى قدرتها على فرض نزع السلاح بالقوة إذا تطلّب الأمر.

بهذا المعنى، تقف غزة اليوم أمام مفصل جديد تتقاطع فيه الحسابات الدولية والإقليمية مع تعقيدات الواقع الميداني والإنساني. وبين مسارات الحرب والتهدئة، يبقى مستقبل القوة الدولية مرتبطاً بقدرتها على المواءمة بين متطلبات الأمن الإسرائيلي، وحقوق الفلسطينيين، وشروط الاستقرار الإقليمي، في واحدة من أعقد المهام الدولية المرتقبة في الشرق الأوسط.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور