تهدف اللعبة الأميركية التي تجري على الساحة اللبنانية اليوم إلى إعادة تشكيل ورسم الأدوار والسلطة في المنطقة. على الطاولة اللبنانية تُعرض خيارات خانقة وواقعاً خيارات ضيقة -يريد الأميركي من خلالها الإيحاء بأن لا حلحلة للوضع القائم إلا بتنفيذ شروطه المحدودة- التي تنص على تسليم الدولة اللبنانية لسلاح حزب الله دون ضمانات فعلية -دون حتى تسليح الجيش-، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات سلام مع الاحتلال تبقي لبنان رهينة للتبعية وتقيّد قراره الوطني. هذه النسخة من "الروليت السياسي" الأميركي تتعمد إجبار الدولة على اختيار ما يرضي الخارج، بينما تُستغل كل خطوة لتعزيز مصالح "إسرائيل" وتقليص قدرة المقاومة على توحيد صفوفها مجدداً بعد ما خاضته في مواجهة العدو. ليصبح ما يحدث في لبنان وكأنه تجربة تهدف إلى تفكيك القوى الإقليمية بشكل متسلسل، حيث تبدأ الجولة من الملعب اللبناني قبل الانتقال إلى غزة وبقية الساحات، ضمن خطة دقيقة تجمع بين الضغط العسكري والدبلوماسي والسياسي لإخضاع القرار الوطني اللبناني.
البدء من لبنان
في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية اليوم بعنوان "دون الحسم في لبنان، لن يكون الحسم في غزة ممكناً"، حاول المقال أن يقدم الرؤية الأميركية - الإسرائيلية التي ترى أن الساحتان مرتبطتان ارتباطاً عضوياً، ولا يمكن فصل عملية "نزع السلاح" في غزة عن معادلة السلاح في لبنان. من هذا المنطلق، يمثل حزب الله للاحتلال عقدة مركزية؛ فـ "الفشل في نزع سلاح حزب الله سيربك المشهد ويقضي عملياً على أيّ فرصة لتنفيذ خطوة مماثلة في غزة". هذا الاستنتاج يقوم على افتراضٍ أساسي في الكيان أن وجود قدرة مسلحة متماسكة في الشمال يشكّل غطاءً ورافداً معنوياً ولوجستياً يثبّت موقف حماس ويزيد من تكلفة أي محاولة لإفراغ غزة عسكرياً. ويعتبر المقال أن "إيران رعت تنسيقاً وثيقاً بين حزب الله وحماس سياسياً وعسكرياً"، وأن آليات التنسيق جُدِّدت وتعززت خلال زمن الحرب، ما جعل "الخط الرابط بين لبنان وغزة أوضح من أي وقت مضى". في هذا الإطار تُقرأ المقاومة ليس فقط كقوة عسكرية بل كفكرة محكمة الجذور شعبياً وسياسياً؛ وبالتالي فإن أي مشروع نزع سلاح يُعتَبر مستحيلاً. باختصار لبنان هو مفتاح المشهد، وإزاحته شرط ضروري لنجاح أي مخطط أميركي – إسرائيلي يهدف إلى إعادة ترتيب قواعد القوة.
تأثير طوفان الأقصى
وحدة الساحات التي تجلّت بوضوح خلال طوفان الأقصى كانت العامل المحوري الذي أجبر العدو وإدارته الراعية على إعادة صياغة حساباتهما، فالإسناد من الجبهة اللبنانية وساحات محور المقاومة مثل اليمن والعراق لغزة أظهر قدرة على التنسيق السياسي والعملياتي، وخلق ديناميكية ردع متصلة كبدت الاحتلال تكاليف أمنية واستراتيجية أعلى مما كان يتوقع، كما فضحت دعم هذه الحركات لغزة ضعف الدول العربية التي تبين أنها لا تصلح لمثل هذه المواقف وهي أساساً كانت قد باعت القضية من قبل عندما طبعت مع الكيان. هذا الانكشاف أدّى إلى استنتاج لدى تل أبيب وواشنطن مفاده أن أي محاولة لمعالجة ملف غزة بمعزل عن لبنان والجبهات الأخرى ستفشل، لأن وجود عقدة من النوع الذي يمثله حزب الله يحول أي عملية يريد الاحتلال الاستفراد فيها إلى مواجهة متعددة الجبهات. من هنا ينبع الحلم الأميركي في تفكيك هذه الساحات قبل أي خطوة لخدمة "إسرائيل"؛ بحيث يتم إضعاف التنسيق بين هذه الساحات بوضع عقبات أمامها كما يحدث الآن في لبنان.
لبنان في مواجهة الروليت الأميركية: بين الانتحار والرفض
الخيارات الموضوعة أمام لبنان اليوم هي بمثابة فخ له؛ فإما أن يُسلِّم سلاحه وبهذا يكون قد ذهب إلى الانتحار وتُدفن حينها آخر مظاهر السيادة والكرامة الوطنية، أو أن ينخرط في اتفاقات سلام تُغريه بوعود الاستقرار لكنها تفتح الباب أمام ارتهانٍ طويل الأمد، فيتحوّل البلد إلى ساحة نفوذ اقتصادي وسياسي مرتهنة لشروط الخارج. في الحالتين، النتيجة واحدة؛ تفريغ لبنان من قدرته على القرار المستقلّ وتحويله إلى تابعٍ في معادلة الأمن الإقليمي التي تصوغها واشنطن وتل أبيب. غير أن الخيار الثالث، الذي تحاول الدبلوماسية الأميركية شطبه من المعادلة، هو خيار الرفض أن يرفض لبنان شروط التفكيك ويعيد صياغة موقعه بحسب أولوياته هو. هذا الرفض للعبة الأميركية يمكن أن يقوم على أربعة أعمدة مترابطة سياسياً، بتثبيت حق الدولة في صياغة سياساتها دون وصاية؛ شعبياً، بحشد الداخل حول مفهوم الأمن الوطني كمسؤولية جماعية تخص كل الأطياف وليس جماعة أو حزب واحد فقط؛ إقليمياً، بتوسيع شبكة التحالفات التي تخلق توازن ردع يحمي القرار اللبناني من الابتزاز؛ ودبلوماسياً، بتفعيل قنوات تفاوض متعددة تُحيد الوسيط الأميركي وتمنع حصر الحلول بيد طرف واحد. عندها فقط يمكن للبنان أن يخرج من لعبة الروليت الأميركية كصاحب قرار يفرض شروط بقائه بدل أن يُفرَض عليه شكل موته.
الكاتب: غرفة التحرير