مع التوصل الى اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، بعد عامين من الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الترقب وإعادة التقييم، مع طرح سؤال مركزي إلى الواجهة: من انتصر في هذه الحرب؟
سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه في الواقع يحمل في طياته إشكالية مفاهيمية وسياسية - عسكرية عميقة، تتعلق بكيفية تعريف "النصر" في الحروب غير التقليدية والحروب غير المتماثلة، وبالخصوص في صراع طويل ومعقد مثل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الرواية الإسرائيلية الرسمية، مدعومة بآلة إعلامية ضخمة ورقابة عسكرية صارمة، إلى ترسيخ صورة "النصر الكامل" من خلال تسليط الضوء على حجم الدمار والضحايا في غزة، تظهر في المقابل حقيقة أكثر واقعية واتزانًا، ترى أن النصر لا يُقاس بعدد المباني المدمّرة ولا بالقدرة على إيقاع الأذى، بل بمدى تحقيق الأهداف الإستراتيجية والسياسية لكل طرف. وهنا تحديدًا يبرز الفرق بين النصر الدعائي والنصر الفعلي.
لقد خاضت المقاومة الفلسطينية – وفي مقدمتها حركة حماس – هذه الحرب وهي تدرك حجم التفاوت العسكري والاقتصادي بينها وبين إسرائيل، لكنها وضعت لنفسها مجموعة من الأهداف الواقعية والمحددة. وعلى الرغم من الكلفة الإنسانية الباهظة والصمود الأسطوري للمقاومة ومجتمعها، فقد تمكنت من تحقيق أغلب تلك الأهداف.
في المقابل، أعلنت إسرائيل منذ الأيام الأولى للحرب أهدافًا طموحة وعلنية: القضاء على حماس كليًا، استعادة جميع الأسرى الإسرائيليين بالقوة، استعادة الردع، وإعادة صياغة واقع غزة بما يخدم أمنها القومي. لكن بعد عامين من المعارك، انتهت الحرب دون تحقيق أي من تلك الأهداف، لتجد إسرائيل نفسها أمام مأزق إستراتيجي يتمثل في الخروج من الحرب بلا إنجاز حقيقي.
إزاء ذلك، يصبح من الضروري مناقشة "من انتصر؟" ليس من منظور عاطفي أو تعبوي، بل من منظور تحليلي موضوعي يعتمد على معيار الأهداف المعلنة والنتائج المحققة على الأرض.
في هذا المقال نسعى لتفكيك هذا السؤال عبر قراءة مزدوجة لنتائج الحرب من زاويتين:
ومن خلال هذا المنهج، يمكن أن نصل إلى قراءة أكثر توازنًا وعلمية لمفهوم النصر والهزيمة، بعيدًا عن الضجيج الإعلامي النفسي الذي يغلّف المشهد منذ اليوم الأول للحرب.
أولاً: أهداف المقاومة الفلسطينية ونتائجها
منذ اليوم الأول للعملية، وضعت المقاومة الفلسطينية جملة من الأهداف المعلنة والضمنية، تمحورت حول الصمود، والبقاء، وإعادة تعريف القضية الفلسطينية عالميًا.
وبالنظر إلى نتائج الحرب بعد عامين، يمكن رصد تحقق أغلب تلك الأهداف:
ثانياً: الأهداف الإسرائيلية ونتائجها
على الجانب المقابل، أعلنت إسرائيل على لسان مسؤوليها أهدافها منذ الأيام الأولى للحرب، وكان أبرزها:
ومن منظور تقييم الأداء العملياتي، تُقاس نتائج أي حملة عسكرية بمؤشرات موضوعية: السيطرة الإقليمية المستدامة، تحييد قدرات الخصم القتالية (C2, ISR, Fires)، كسر إرادته على القتال، أو تحقيق أهداف سياسية ملموسة. في الحالة الإسرائيلية، كانت الأهداف المعلنة واضحة. لكن على أرض الواقع، وبعد حملة قتالية واسعة امتدت لعامين فوق شريط جغرافي لا يتجاوز 350 كلم² فقط، تبيّن أن أياً من هذه الأهداف لم يتحقق فعلياً. منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة بقيت مرنة، قدرات النيران غير المباشرة (Rocket Salvos) استمرت بوتيرة منتظمة، والشرط التفاوضي "لا أسرى بدون تفاوض" ظل ثابتاً.
اعتمد الطرف المهاجم على نمط الحصار المكثف وعمليات الضرب الجوي والبرميلي الواسعة وقتل الأبرياء والعزل والنساء والأطفال وتدمير البنى التحتية لخلق صورة "نصر إعلامي"، لكن وفق مبادئ الحرب غير المتناظرة ومكافحة التمرّد (COIN/Asymmetric Warfare)، فإن النجاح لا يُقاس بحجم الدمار، بل بقدرة القوة المهاجمة على منع الخصم من إعادة بناء قدراته، وحرمانه من المبادرة، وإخضاعه لسيطرة دائمة — وكل ذلك لم يتحقق.
ثالثاً: الاعتراف الإسرائيلي بالنتائج
رغم الرقابة العسكرية وهيمنة الرواية الرسمية، ظهرت في الإعلام العبري تصريحات وتحليلات تعكس اعترافاً غير مباشر بانتصار المقاومة أو على الأقل بفشل الأهداف الإسرائيلية:
الجميع هنا كان ينتظر صورة حماس تستسلم في إذلال، لكن الصورة التي رأيناها اليوم لا تشبه ذلك على الإطلاق.
"لن يكون هناك احتلال لغزة، ولن تُبنى مستوطنات هناك، وأي محاولة ستُواجه مقاطعة دولية كبرى". (تأكيد على نجاح حماس في فرض معادلة الردع السياسي).
"إطلاق السجناء الفلسطينيين يشكل خطراً على إسرائيل… هذا الاتفاق سيؤدي إلى كارثة أخرى." (إقرار بأن حماس نجحت في استعادة مقاتليها عبر صفقة غير مسبوقة).
"بينما انتصرت إسرائيل على خصومها القويين، فشلت أمام خصمها الأضعف حماس، التي حققت أهدافها: إنهاء الحرب، انسحاب إسرائيلي، وإطلاق سجناء فلسطينيين."
كما كتب في منشور آخر:
"المؤرخون المستقبليون سيرون هذا، رغم الدمار في القطاع، كانتصار فلسطيني كبير… فكرة الدولة الفلسطينية عادت إلى الطاولة، بينما إسرائيل أصبحت دولة منبوذة."
"حماس حققت إنجازين كبيرين: إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وإطلاق مئات السجناء… الاتفاق يمثل ختاماً واضحاً لعودة القضية الفلسطينية."
هذه الشهادات، رغم اختلاف مصادرها، تعكس إجماعًا ضمنيًا على أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها الإستراتيجية، بينما حماس خرجت من الحرب كفاعل باقٍ ومؤثر.
رابعاً: ما بعد الحرب – بدايات نقاش داخلي في إسرائيل
حتى الآن، ما يزال الإعلام العبري يعيش نشوة "النصر المزعوم"، بدفع من الرقابة العسكرية والدعاية الحكومية التي تحاول تسويق الحرب كـ"إنجاز ردعي".لكن من المتوقع أن تشهد الأسابيع والأشهر القادمة تحولًا في الخطاب الداخلي الإسرائيلي، مع بدء النقاشات حول جدوى حرب استمرت لعامين، وتسببت بأزمة سياسية، واقتصادية، ومجتمعية غير مسبوقة داخل إسرائيل، خاصة من قبل المعارضة السياسية التي ستطالب في محاكمة نتنياهو خصوصاً والحكومة عموماً، إضافة الى الإصرار على إجراء انتخابات مبكرة.
خامساً: وقف إطلاق النار – إنجازات المقاومة وتحديات ما بعد الحرب
بالتوصل الى اتفاق وقف اطلاق النار، حققت المقاومة الفلسطينية إنجازًا مهمًا تمثل في وقف الإبادة واستعادة مشروعيتها على الصعيد الدولي، وضمان بقاء سكان القطاع في أرضهم. إلا أن هذا التوقف المؤقت لم يُنهِ التحديات، فحرية الحركة في غزة والضفة، واستمرار التهديدات بالقصف، وتدخل القوى الإقليمية المختلفة، تشكل مخاطر دائمة على استقرار القطاع.
وقد لعبت مجموعة من العوامل دورًا حاسمًا في فرض الهدنة، من بينها الوضع الدولي، وضغوط الإدارة الأميركية بقيادة ترامب، وتخلخل التوازن الداخلي في الجيش الإسرائيلي وانقسام الشارع في إسرائيل، إلى جانب الكلفة الاقتصادية العالية للاحتلال المباشر للقطاع التي بلغت نحو 18 مليار دولار سنويًا. كما ساهمت العوامل الإقليمية، مثل دور إيران في تسليح الضفة، والتوترات في لبنان وسوريا والعراق واليمن، في فرض قيود على العودة إلى التصعيد.
ورغم الانجاز الدبلوماسي للمقاومة وإطلاق مئات الأسرى، فإن الواقع على الأرض يشير إلى أن الحرب لم تنتهِ بالمعنى الكامل: حماس لا تزال موجودة، وسلاحها محفوظ، وقدرتها على إعادة ترميم بنيتها العسكرية والسياسية قائمة، بينما إسرائيل تواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة، من بينها سقوط مشاريع التهجير والاستيطان والحكم العسكري المباشر، وازدياد عزلة الكيان دوليًا. هذه المعادلة تؤكد أن وقف النار يمثل انتصارًا سياسيًا واستراتيجيًا للمقاومة، لكنه يضعها أمام تحديات الحفاظ على هذا الإنجاز وإدارة المخاطر المستقبلية.
خاتمة
إن معيار الانتصار في الحروب لا يُقاس بالدمار أو الخسائر البشرية، بل بتحقيق الأهداف الإستراتيجية والسياسية.وبناءً على ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية حققت انتصارًا واضحًا وفق هذا المعيار:
في المقابل، فشلت إسرائيل في تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة، وتراجعت مكانتها الدولية، فيما يزداد انقسامها الداخلي.
يمكن القول إن الإنتصار في هذه الحرب كان فلسطينيًا بالمعنى الإستراتيجي والتاريخي، حتى لو كان إسرائيليًا بالمعنى التكتيكي الظاهري. فالمقاومة لم تُهزم رغم كل ما وُجه ضدها من آلة عسكرية وإعلامية غير مسبوقة، بل خرجت من الحرب أكثر حضورًا في الوعي الدولي وأكثر رسوخًا في الأرض التي حاول العدو اقتلاعها منها.
أما إسرائيل، فقد ربحت جولات قتال وحققت إنجازات تكتيكية كإغتيال قادة الطوفان، لكنها خسرت المعركة بتحقيق الأهداف، كما خسرت معركة الشرعية والسردية، ولهذا، فإن المؤرخين – كما قال أهرون بريغمان – سيرون هذه الحرب "كانتـصار فلسطيني كبير" يُعيد رسم الصراع لعقود قادمة، ويؤسس لمرحلة جديدة عنوانها: أن القوة لا تكفي حين يُهزم الهدف، وأن الإرادة حين تصمد تصبح نصرًا بحد ذاتها.
الكاتب: غرفة التحرير