صدر مؤخرا كتاب "في حرب مع أنفسنا: فترة خدمتي في بيت (ترامب) الأبيض" كمذكرات للجنرال المتقاعد ومستشار الأمن القومي الأميركي (هـ. ماكمستر)، الذي يسلط الضوء على الأزمات العميقة والهيكلية في الإدارات الأميركية.
عن الكاتب: (هربرت ريموند ماكماستر) هو شخصية عسكرية وأكاديمية أمريكية بارزة. شغل منصب مساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي في إدارة ترامب الأولى من عام 2017 إلى 2018، وهو جنرال متقاعد برتبة فريق في الجيش الأمريكي، خدم لمدة 34 عاماً. شارك في حرب الخليج وحربي أفغانستان والعراق، واكتسب شهرة، ويحمل درجة الدكتوراه في التاريخ، ويعمل حالياً كزميل أقدم في معهد (هوفر) بجامعة (ستانفورد).
عن الكتاب: "في حرب مع أنفسنا: فترة خدمتي في بيت (ترامب) الأبيض" (At War with Ourselves: My Tour of Duty in the Trump White House)، هو مذكرات (ماكماستر) التي توثق فترة خدمته التي دامت 13 شهراً كمستشار للأمن القومي. يقدم الكتاب شهادة من الداخل على واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية الحديثة، يلخص الفكرة المحورية للكتاب، وهي أن أكبر التحديات التي واجهت إدارة (ترامب) كانت ناجمة عن الصراعات الداخلية، والفوضى الإدارية، والتناقضات الشخصية لـ(ترامب) نفسه. إلى درجة يصف (ماكماستر) البيئة الداخلية في الإدارة الأميركية بأنها كانت "خليطاً ساحراً من المكائد، والمؤامرات، والأجندات المنفصلة" (ص. 69).
محتوى الكتاب
تحليل لشخصية (ترامب): يقدم الكتاب صورة نقدية للرئيس (ترامب)، حيث يصفه بأنه شخصية متقلبة، تفتقر إلى المعرفة التاريخية، وتتأثر بشدة بالمديح، خاصة من القادة المستبدين.
فوضى صنع القرار: يكشف الكتاب عن غياب عملية صنع قرار منظمة ومتماسكة. بدلاً من ذلك، كانت السياسات تتشكل نتيجة للصراعات بين أجنحة مختلفة داخل البيت الأبيض، مثل الجناح القومي المتطرف بقيادة (ستيف بانون) والمؤسسة الأمنية التي يمثلها (ماكماستر) وآخرون.
نقد السياسة الخارجية: يحلل (ماكماستر) الإخفاقات الاستراتيجية في ملفات رئيسية مثل أفغانستان، التي يصفها بأنها "حرب مدتها عام واحد خيضت ستة عشر مرة" (ص. 24)، وسوريا، وإيران. ويوضح كيف أدت القرارات المتناقضة والانسحابات المفاجئة إلى إضعاف الموقف الأمريكي وتقوية الخصوم.
رؤية الكاتب: يؤكد (ماكماستر) في مقدمة كتابه أن هدفه هو تجاوز "التحزب المفرط" وشرح "ما حدث بالفعل". وعلى الرغم من أنه يسجل بعض النجاحات السياسية، إلا أن السرد العام يميل إلى إدانة الفوضى وانعدام الرؤية اللذين طبعا تلك الفترة.
باختصار، يقدم الكتاب شهادة نادرة من مسؤول رفيع المستوى حول كيفية تأثير الصراعات الداخلية وشخصية الرئيس مما أدى إلى نتائج كارثية على الساحة الدولية.
أولاً: الحرب الداخلية: فوضى وصراعات داخل البيت الأبيض
من عنوان الكتاب "في حرب مع أنفسنا" يتناول تفاصيل عما أسماه "حرب أهلية داخلية" في الإدارة الأميركية. يصف (ماكماستر) بيئة العمل بأنها سامة مليئة بالمكائد، ويستشهد بتقييم مستشار الأمن القومي الأسبق (برنت سكوكروفت) الذي وصف البيت الأبيض في عهد (ريغان) بأنه كان "خليطاً ساحراً من المكائد، والمؤامرات، والأجندات المنفصلة" (ص. 69)، والذي قال إنه وصف ينطبق تماماً على إدارة (ترامب).
صراع الأجنحة: يوثق الكتاب الصراع الشرس بين من يصفهم بـ "القوميين الاقتصاديين" من اليمين المتطرف مثل (ستيف بانون) وبين المؤسسة العسكرية والسياسية التي يمثلها (ماكماستر) ووزيري الدفاع والخارجية آنذاك، (جيمس ماتيس) و(ريكس تيلرسون). هذا الصراع لم يكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل "وصل إلى حد التآمر ومحاولات الطرد الجماعي لموظفين بتهمة عدم الولاء".
شخصية (ترامب) المتقلبة: يصور الكتاب (ترامب) كرئيس غير مؤهل، تحركه انعداماته الأمنية ورغبته في لفت الانظار. كان ضعيفاً أمام إطراء المستبدين مثل (بوتين)، حيث يقول (ماكماستر): "لعب (بوتين)، وهو عميل سابق لا يرحم في جهاز (الاستخبارات السوفياتية)، على غرور (ترامب) وانعدام شعوره بالأمان من خلال الإطراء" (ص. 8). كما يظهر (ترامب) بمظهر الجاهل بالتاريخ والسياسة، مما جعله عرضة للاستغلال من قبل قادة أجانب ومستشاريه على حد سواء.
التسريبات وانعدام الثقة: يصف (ماكماستر) البيت الأبيض بأنه "منخل يتسرب منه كل شيء"، ويؤكد أن "التسريبات تدمر الثقة... إذا أجبرتنا التسريبات على حصر المداولات في دائرة تتقلص باستمرار، فإن سياساتنا ستعاني من غياب وجهات النظر المهمة" (ص. 41). هذا الجو من انعدام الثقة شل عملية صنع القرار وأظهر الإدارة الأمريكية كمؤسسة مفككة وغير قادرة على حماية أسرارها.
ثانياً: الفشل الاستراتيجي والتخبط في السياسة الخارجية
يقدم الكتاب نقداً لاذعاً لغياب الاستراتيجية الأمريكية، ليس فقط في عهد (ترامب) بل كامتداد لإخفاقات متراكمة.
أفغانستان: فيتنام جديدة: في حين يصف (ترامب) نفسه الحرب في أفغانستان بأنها "إهدار هائل للدماء والثروات". ينقل (ماكماستر) اعترافه لـ(ترامب) بأن الاستراتيجية الأمريكية كانت فاشلة، قائلاً: "وصفتُ حرب الستة عشر عامًا بأنها حرب مدتها عام واحد خيضت ستة عشر مرة باستراتيجيات قصيرة المدى وغير متسقة ومعيبة بشكل أساسي" (ص. 24). فيما يمكن اعتباره اعتراف رسمي بالفشل يؤكد على خطاب المقاومة حول عبثية التدخلات العسكرية الأمريكية.
سوريا: الإذعان للأمر الواقع الروسي والإيراني: يكشف الكتاب أن السياسة الأمريكية في سوريا كانت "خالية من الاستراتيجية". ويصف كيف أن الرئيسين الروسي (بوتين) والتركي (أردوغان) نجحا في التلاعب بـ(ترامب).
سياسة "الضغط الأقصى" الفاشلة: سواء مع كوريا الشمالية أو إيران، يوضح الكتاب أن سياسة "الضغط الأقصى" كانت مليئة بالثغرات والتناقضات. ففي حين كان (ترامب) يهدد بـ"تدمير كوريا الشمالية بالكامل"، كان في الوقت نفسه يبدي رغبته في "صداقة" زعيمها، مما أرسل رسائل متناقضة أضعفت موقف واشنطن.
ثالثاً: الخلل البنيوي في الحضارة الغربية والسياسة الأمريكية
يقدم الكتاب لوحة قاتمة (ومعبرة) عن القيم الأخلاقية للقيادة الأمريكية، إذ يتحدث عن:
النسبية الأخلاقية للرئيس الأمريكي: من أبرز الأمثلة التي ضربها على ذلك هو رد (ترامب) على مذيع قناة (فوكس نيوز) الذي وصف (بوتين) بأنه "قاتل". أجاب (ترامب): "هناك الكثير من القتلة. لدينا الكثير من القتلة. ماذا تظن؟ هل بلدنا بريء إلى هذا الحد؟" (ص. 9). هذا الاعتراف الصريح من رئيس الولايات المتحدة بأن بلاده "ليست بريئة" هو إدانة ذاتية تفوق أي نقد خارجي، ويكشف القناع الأخلاقي ويضع السياسة الأمريكية على قدم المساواة مع خصومها من الناحية الأخلاقية.
ازدراء الحلفاء: يصور الكتاب (ترامب) وهو يتعامل مع حلفاء أمريكا التقليديين في (الناتو) وأوروبا كـ"مستغلين" و"متطفلين". هذا الموقف أدى إلى إضعاف التحالف الغربي وخلق فراغاً استراتيجياً تستفيد منه قوى أخرى كروسيا والصين.
دعم الأنظمة القمعية: يكشف الكتاب عن العلاقة الوثيقة بين إدارة (ترامب) وأنظمة قمعية، خصوصاً السعودية. ويشير (ماكماستر) إلى تجاهل الإدارة للممارسات القمعية للنظام السعودي حتى بعد مقتل (جمال خاشقجي)، قائلاً: "رغم خيبة أملي العميقة واشمئزازي عندما علمت بمقتل (خاشقجي)، إلا أنني كنت ما أزال أعتقد أن فك الارتباط مع الشرق الأوسط لن يوقف أزمات المنطقة المتتالية ولن يعدل من سلوك (محمد بن سلمان) والعائلة المالكة السعودية" (ص. 276). ويؤكد المؤلف على الطبيعة النفعية للسياسة الأمريكية التي تضع المصالح المادية فوق حقوق الإنسان.
رابعاً: الحديث عن المقاومة في أروقة البيت الأبيض
اللافت في الكتاب أنه ذكر بشكل متجرد كثير من المعطيات التي تظهر صورة المقاومة كقوة صامدة وذات رؤية:
إيران كقوة إقليمية فاعلة: فرغم العداء الذي يكنه (ماكماستر) لإيران، إلا أن كتابه يظهرها كلاعب إقليمي استراتيجي نجح في استغلال التناقضات الأمريكية. يصف كيف أن إيران استفادت من الأزمة السورية، قائلاً إنها "تستخدم الحرب لإنشاء جسر بري إلى البحر المتوسط، وتوسيع نفوذها في المنطقة، وتهديد إسرائيل بالدمار" (ص. 96). ويؤكد أنه بينما كانت واشنطن غارقة في صراعاتها الداخلية، كانت طهران تحقق أهدافها الاستراتيجية.
فشل الحصار على قطر: يروي الكتاب تفاصيل الأزمة الخليجية، ويظهر كيف أن (ترامب) تبنى في البداية الموقف السعودي-الإماراتي المتشدد ضد قطر، لكن إدارته فشلت في النهاية في فرض رؤيتها، مما أظهر حدود النفوذ الأمريكي حتى على أقرب حلفائها.
صمود المقاومة: يذكر أن الفشل الأمريكي في أفغانستان، والعجز في سوريا، والتخبط في التعامل مع إيران، كلها عوامل تبرز صمود محور المقاومة أمام التقلب والتخبط الأميركي. حيث يعترف (ماكماستر) بأن السياسات الأمريكية الفاشلة هي التي أطالت أمد الصراعات، قائلاً: "إن عقلية الحرب القصيرة لدى أمريكا قد أطالت أمد الحرب وجعلتها أكثر تكلفة" (ص. 110)، ويؤكد أن استراتيجية الصبر التي يتبناها محور المقاومة كانت فعالة في استنزاف القوة الأمريكية.
الخلاصة:
كتاب "في حرب مع أنفسنا" هو وثيقة إدانة ذاتية من قلب الإمبراطورية الأمريكية. تصور قوة عظمى تعاني من الشيخوخة والانقسام الداخلي، تقودها شخصيات متقلبة وتفتقر إلى أي رؤية استراتيجية متماسكة. هذه الشهادة، القادمة من أحد كبار مهندسي سياستها، تقدم دليلاً قوياً على أن تراجع النفوذ الأمريكي ليس نتيجة قوة الخصوم فحسب، بل هو نتاج مباشر لأمراضها الداخلية العميقة.
الكاتب: شادي علي