في كتابه "بيبي: ماي ستوري"، يقدم بنيامين نتنياهو نفسه كزعيم يعتمد على الحنكة والذكاء في تحقيق الإنجازات لشعبه. لكنه في الواقع، ومن خلال تفاصيل رواياته، يكشف دون أن يدري عن منظومة نفوذ مترابطة تضم اللوبيات الصهيونية الاقتصادية والإعلامية والسياسية التي تتحرك بالتوازي مع سياساته.
فهو لا يذكر علاقاته بشكل مباشر وتواصله مع هذه "اللوبيات"، لكنه يتحدث عن نتائج لم تكن لتتحقق من دون وجود أدوات ضغط هائلة تعمل خلفه في واشنطن والعواصم الأخرى.
لطالما تغنى نتنياهو بالحديث عن "علاقاته المتينة" مع شخصيات أميركية نافذة، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. حيث يقول إنه استطاع التأثير في قرارات رؤساء متعاقبين، من بيل كلينتون إلى دونالد ترامب، عبر "الشرح والإقناع"، إلا أن الوقائع تشير إلى ما هو أبعد من ذلك.
لأن الشرح منطقياً لا يعد كافياً لتغيير مواقف إدارات كاملة، لكن وجود اللوبي الإسرائيلي — وخصوصاً منظمة "أيباك" — مكّن نتنياهو من تحويل التعاطف مع "إسرائيل" إلى التزام إن كان على صعيد السياسة أو المال.
لذلك من يصفهم نتنياهو مراراً بالـ "أصدقاء" داخل الكونغرس الأميركي، هم فعلياً بنية الضغط الممنهجة التي تعمل لصالحه منذ عقود.
معركة الاتفاق النووي
يروي نتنياهو في أحد أهم فصول الكتاب كيف واجه إدارة أوباما في قضية الاتفاق النووي مع إيران، وكيف صعد إلى منبر الكونغرس الأميركي دون تنسيق مع البيت الأبيض.
ويصف تلك الخطوة بأنها "موقف شجاع"، لكنه يتجنب الإشارة إلى أن نجاحه في ذلك الخطاب كان نتاج تحرك منسق بينه وبين جماعات الضغط المؤيدة للكيان.
فخلف خطابه في الكونغرس الذي ظهر في الإعلام وتحدث خلاله عن "الخطر الإيراني"، كانت تدور حملة إعلامية وتمويلية ضخمة قادتها شبكات مانحين صهاينة ومراكز أبحاث مرتبطة بتل أبيب. نتنياهو بالطبع لا يقول ذلك علناً، لكنه يعترف بأن أعضاء الكونغرس "تفهّموا قضيته فوراً"، في إشارة إلى أن التأثير المسبق لتلك اللوبيات جعلهم مهيئين لدعمه قبل أن يتحدث.
كذلك يتحدث نتنياهو بفخر عن علاقاته برجال الأعمال اليهود حول العالم، مثل شيلدون أديلسون ورونالد لودر، ويصفهم بأنهم "داعمون لرؤية إسرائيل في الأمن والازدهار". لا يتحدث عن التمويل المباشر الذي تلقاه منهم، لكنه يذكر في مواضع متفرقة كيف تمكّن من تجاوز أزمات مالية وسياسية بفضل "الأصدقاء في الخارج".
هذه الإشارات تكفي لفهم الدور المالي الذي تمارسه النخب الاقتصادية الصهيونية في تمويل حملاته داخل الولايات المتحدة. وتشير كل الوقائع إلى دعم مادي وسياسي منظم يحصل عليه باستمرار عبر هذه القنوات وهذا ما يمكنه من البقاء في الحكم.
قرار نقل السفارة
من أبرز الأمثلة على هذا النفوذ ما يرويه عن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، يقول نتنياهو إن ترامب كان "صاحب الشجاعة"، لكنه يذكر في الوقت نفسه حجم الضغط الذي مورس على الإدارة الأميركية من جماعات ولوبيات مؤيدة ل "إسرائيل".
لذا لم يكن القرار نتيجة اقتناع مفاجئ من ترامب، بل نتيجة ضغط متراكم نسّقه نتنياهو مع داعميه في واشنطن.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل "النجاح" الذي يتباهى به دائماً عن التأثير المنهجي الذي تمارسه جماعات الضغط الصهيونية داخل المؤسسات الأميركية.
الحصول على اللقاح
يذكر نتنياهو أيضاً قصة عن اللقاح فايزر حصلت في سياق جائحة كورونا، تمثل نموذجاً آخر على طريقة عمل هذا النفوذ. حيث يقول إنه تحدث مباشرة إلى ألبرت بورلا، المدير التنفيذي لفايزر، واتفق معه على جعل "إسرائيل أول دولة تتلقى اللقاح".
بالطبع أراد حينها نتنياهو أن يتخذ الأمر "كإنجاز" مثلما يفعل دائماً، لكنه غفل عن أن العلاقة بين الطرفين كانت نتاج شبكة مصالح يهودية عالمية مكّنته من تجاوز طوابير الدول الكبرى.
الأمر ذاته تكرر في اتفاقات أبراهام، حيث استخدم نتنياهو شبكات اقتصادية وإعلامية لتسويق التطبيع على أنه "مشروع استثماري مشترك"، -وخاضت هذا الغمار بعض الدول العربية التي كان من المفترض أن تقف إلى جانب القضية لا أن تتأثر باللوبيات-.
ما تكشفه هذه الأحداث، هو أن النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة لم يعد تقليدياً بل أصبح موازياً لصناعة القرار الأميركي.
وبهذا المعنى، لا يمكن الحديث عن استقلالية القرار الأميركي كما يروج ترامب لأن شبكة اللوبيات الصهيونية تعمل ليل نهار. واستمرار هذا النمط سيقود في النهاية إلى إضعاف موقع الولايات المتحدة نفسها، لأنها تتحمل تبعات خيارات نتنياهو التي أصبحت مكلفة.
الكاتب: غرفة التحرير