بعد أكثر من عقدين على الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ما زالت البلاد تعاني من الانقسام الطائفي العميق الذي زرعه الاحتلال ورعاه كأداة لإدارة المشهد السياسي والأمني. وبينما يستعد العراقيون اليوم لجولة جديدة من الانتخابات في 11 تشرين الثاني، يتجدد السؤال حول الأسباب البنيوية التي منعت العراق من النهوض رغم ما يملكه من ثروات هائلة وطاقات بشرية. الجواب في جوهره، يرتبط بالاستراتيجية الأميركية التي قامت على مبدأ "فرّق تسد"، بتنفيذ مباشر من مؤسسات عسكرية واستخباراتية كان هدفها تفكيك النسيج العراقي وجعل الطائفية قاعدة للحكم فيه.
"فرّق تسد".. الأساس الذي بُني عليه الاحتلال
منذ دخول القوات الأميركية إلى بغداد في 2003، تحت الذرائع التي حاكتها لم يكن مشروع الاحتلال يقتصر على ما أعلن عنه، حيث الهدف الأساسي كان إعادة هندسة بنية المجتمع العراقي بما يتوافق مع المصالح الأميركية. عمدت واشنطن إلى تقسيم المشهد الجديد إلى مكوّنات ثلاث: شيعة وسنّة وأكراد، ووضعت هذا التقسيم في صلب العملية السياسية عبر مجلس الحكم الانتقالي الذي تأسس في تموز/ يوليو من العام نفسه.
بهذه الخطوة، انتقل العراق إلى ساحة محاصصة مذهبية. حيث كان ذلك تطبيقاً صريحاً لمبدأ "فرّق تسد"، الذي يهدف إلى تفكيك القوى الوطنية الجامعة وتحويل الولاءات من الدولة إلى الطائفة أو الحزب أو الزعيم المحلي. وقد نجحت الولايات المتحدة في جعل الانقسام هو القاعدة الجديدة للحياة السياسية.
ديفيد بترايوس.. هندسة الفتنة الطائفية
يُعدّ الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس أحد أبرز العقول التي صاغت سياسة الاقتتال الطائفي للعراق بعد الاحتلال. تولى قيادة القوات الأميركية في الموصل أولاً، ثم في مختلف المحافظات العراقية، قبل أن يصبح قائداً عامًا للقوات متعددة الجنسيات عام 2007.
في تلك الفترة، أطلقت واشنطن ما سُمّي بـ "خطة الصحوات"، وهي مشروع لتسليح العشائر السنيّة بذريعة محاربة تنظيم القاعدة. لكن هذه الخطة، التي أشرف عليها بترايوس شخصياً، كانت في الواقع وسيلة لتغذية الانقسام الأهلي وإشعال صراعٍ سنّي – شيعي مستمر حتى اليوم.
فبدل أن تُبنى مؤسسات وطنية جامعة، جرى تفكيك القاعدة الشعبية في العراق بما فيهم الجيش والشرطة على أسس مذهبية ومناطقية. ما أسفر عن وقوع الكثير من الاشتباكات والنزاعات بين العشائر. وكان بترايوس حينها يدير المشهد كما لو أنه يملك "مختبراً وعينات" وعليه تجربة نموذج جديد من إدارة الحروب، حيث تشتبك الطوائف فيما بينها تحت إشراف القوة المحتلة.
التدخل السلبي
بعد الانسحاب الأميركي المعلن عام 2011، لم تتوقف واشنطن عن التدخل في الشأن العراقي، لكنها انتقلت إلى نمط آخر من التحكم، يمكن وصفه بـ "التدخل السلبي".
لم تعد بحاجة إلى وجود عسكري مباشر لإبقاء العراق في دائرة الانقسام. فقد استثمرت في المشهد السياسي الطائفي الذي أسسته، وتركت القوى المحلية تتصارع تحت عنوان "الاستقلال والسيادة".
من خلال شبكات النفوذ الاقتصادي والإعلامي والاستخباراتي، وبدعم متوازن لطرفي الصراع – تارة للحكومة وتارة للمعارضة – استطاعت واشنطن الحفاظ على مستوى من الفوضى المحسوبة يمنع العراق من الاستقرار دون أن يدفعها إلى العودة بثقلها إلى الميدان.
هذا النمط من الإدارة جعل العراق نموذجاً للاستنزاف البطيء، حيث يُمنع أي توازن سياسي أو تنموي حقيقي يمكن أن يخرج البلاد من دوامة الضعف.
نتائج الانقسام
رغم امتلاك العراق واحداً من أكبر الاحتياطات النفطية في العالم، ورغم كثافة موارده البشرية والعلمية، إلا أنه ما زال عاجزاً عن بناء بنية تحتية متماسكة أو تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
هذا الضعف لا يمكن تفسيره فقط بعوامل الفساد أو عجز الإدارة، بل بجذورٍ أعمق تعود إلى الانقسام الطائفي الذي جرى تكريسه بفعل السياسة الأميركية.
النتيجة أن العراق اليوم، بعد أكثر من عشرين عاماً على الاحتلال، يعيش تناقضاً صارخاً لأنه يعد من البلدان الغنية بالموارد لكنه يفتقر إلى الاستقرار.
النموذج الأميركي في العراق تكرر واقعاً في عدة دول من المنطقة، وقام على مبدأ إثارة الانقسامات الداخلية لضمان بقاء النفوذ الخارجي.
إنّ ما يعانيه العراق اليوم من ضعف تنموي وانقسام سياسي هو استمرار لاستراتيجية أميركية لا تزال فاعلة. فواشنطن لم تغادر العراق إلا شكلياً، تاركة وراءها مجتمعاً منقسماً ودولة أرهقتها الصراعات وتحاول أن تستعيد توازنها.
الكاتب: غرفة التحرير