في عالم تهيمن عليه القوة العسكرية والدعم الأعمى من القوى العظمى، يصبح الحديث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان نوعًا من السخرية القاسية. هذه هي الحقيقة التي تتجلى مرة أخرى في فلسطين، حيث يواصل الاحتلال الصهيوني عملياته الوحشية رغم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار. إلا أنه علينا أن نتجاوز السردية الرسمية، وأن نبحث في الحقائق المخفية تحت ركام التصريحات الدبلوماسية.
الاحتلال كقوة مارقة: خروقات بالجملة وإفلات من العقاب
منذ اللحظة الأولى لدخوله حيّز التنفيذ في 19 يناير 2025، لم يكن اتفاق وقف إطلاق النار سوى حبر على ورق بالنسبة للاحتلال الصهيوني. فالحقائق تشير إلى نمط مستمر من الخروقات والانتهاكات التي تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الاحتلال لم يكن يومًا معنيًا بتحقيق اتفاق حقيقي، بل كان يسعى فقط لشراء الوقت وإعادة ترتيب أوراقه العدوانية.
على المستوى الإنساني، يظهر الاحتلال وحشيته عبر الحصار الخانق الذي يفرضه على غزة. منع إدخال الوقود والمواد الطبية وبيوت الإيواء، ورفض السماح بإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، هي كلها أدوات تُستخدم ضمن سياسة العقاب الجماعي. هذه ليست مجرد خروقات، بل جرائم ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي — لو كان هناك مجتمع دولي لديه الإرادة لمعاقبة الاحتلال.
خروقات الإغاثة والإيواء: سياسة العقاب الجماعي بالأرقام
الأرقام هنا ليست مجرد بيانات؛ إنها انعكاس مباشر للمعاناة الإنسانية. يشير الاتفاق إلى ضرورة إدخال 50 شاحنة وقود يوميًا إلى غزة، لكن ما وصل فعليًا خلال 42 يومًا هو 978 شاحنة فقط — بمعدل 23 شاحنة يوميًا. أي أن الاحتلال أدخل أقل من نصف الكمية المتفق عليها. في قطاع يعتمد فيه ملايين البشر على الوقود لتشغيل المستشفيات والمخابز ومحطات الكهرباء، يُعد هذا انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان.
كذلك، تم إدخال 15 بيتًا متنقلًا فقط من أصل 60,000 تم الاتفاق عليها. وفي ظل دمار طال أكثر من 60% من المساكن في غزة، يصبح هذا التقصير جريمة إنسانية أخرى. أما فيما يتعلق بإزالة الركام واستخراج الجثث، فقد تم إدخال 9 آليات فقط من أصل 500 يحتاجها القطاع. هذا الرقم يعكس مدى استخفاف الاحتلال بالمعاناة الإنسانية، حيث تُركت الجثث تحت الأنقاض لأيام، في مشهد يرقى إلى جريمة حرب.
الخروقات الميدانية: استمرار العدوان العسكري
لم يتوقف الاحتلال عند عرقلة المساعدات؛ بل واصل عدوانه العسكري بشكل ممنهج. بلغ إجمالي الخروقات الميدانية التي ارتكبها الاحتلال خلال 42 يومًا فقط 962 خرقًا، أسفرت عن استشهاد 116 فلسطينيًا وإصابة 490 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة. كما شهدت سماء غزة 210 خروقات جوية عبر تحليق مكثف للطيران الحربي والاستطلاعي، في حين تم تسجيل 77 حالة إطلاق نار مباشر استهدفت المدنيين. لم تتوقف الانتهاكات عند هذا الحد، بل واصلت الآليات العسكرية توغلها في الأراضي الفلسطينية 45 مرة، مصحوبةً بـ 37 عملية قصف واستهداف لمناطق مأهولة بالسكان والبنى التحتية. بالإضافة إلى ذلك، نفذ الاحتلال 5 عمليات اعتقال طالت سائقين وصيادين، في انتهاك واضح لحقوق المدنيين وحرية التنقل والعمل. هذه الأرقام تعكس حجم العدوان المستمر، وتؤكد أن الاحتلال لم يلتزم بأي من بنود الاتفاق، بل استغل الهدنة لتصعيد خروقاته بشكل ممنهج.
هذه الأرقام تكشف أن "وقف إطلاق النار" لم يكن سوى عنوان زائف، في حين استمرت آلة الحرب الصهيونية في حصد الأرواح وتدمير ما تبقى من البنية التحتية.
خروقات ملف الأسرى: انتهاك الاتفاق والكرامة الإنسانية
من بين أخطر الخروقات ما يتعلق بملف الأسرى. ينص الاتفاق على الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين بعد ساعة واحدة من تسليم أسرى الاحتلال، لكن الاحتلال تعمد تأخير الإفراج في جميع المراحل، ورفض الإفراج عن الدفعة الأخيرة البالغ عددها 600 أسير. علاوة على ذلك، أجبر الاحتلال بعض المعتقلين على ارتداء ملابس تحمل دلالات نازية وعنصرية، في انتهاك صارخ لكرامتهم الإنسانية.
معبر رفح وممر فيلادلفيا: خنق غزة اقتصاديًا وإنسانيًا
استمر الاحتلال في إغلاق معبر رفح، ومنع استئناف حركة البضائع والتجارة، بل أعاد عشرات المرضى والجرحى بعد الاتفاق على سفرهم. أما في ممر فيلادلفيا، فلم يلتزم الاحتلال بتقليص قواته تدريجيًا، بل واصل التوغل لمسافات مئات الأمتار يوميًا، رافضًا بدء انسحابه في اليوم 42 كما كان مقررًا.
البعد السياسي والقانوني: الاحتلال كقوة مارقة
هذه الخروقات ليست مجرد أفعال فردية أو أخطاء عشوائية؛ إنها سياسة ممنهجة تهدف إلى نسف الاتفاق وفرض واقع جديد. بموجب القانون الدولي، يُعد استهداف المدنيين، وعرقلة وصول المساعدات، والتوسع العسكري انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف، وترقى إلى جرائم حرب.
لكن رغم هذه الانتهاكات الواضحة، فإن المجتمع الدولي يكتفي بإصدار بيانات "القلق" و"الإدانة" دون أي إجراءات فعلية لمحاسبة الاحتلال. الدعم الأمريكي المطلق لهذا الكيان، والصمت الأوروبي المريب، يُشجعان الاحتلال على مواصلة جرائمه، ويُثبتان أن القانون الدولي يُطبق بانتقائية تخدم مصالح القوى العظمى.
المرحلة الثانية: مسرحية المفاوضات والتهرب "الإسرائيلي"
من خلال خروقاتها المتكررة، لا تسعى "إسرائيل" فقط إلى تقويض الاتفاق، بل إلى خلق وقائع جديدة تُفرغ أي تفاوض مستقبلي من مضمونه. قرارات نتنياهو الأخيرة باعتماد المقترحات الأمريكية لتمديد المرحلة الأولى من الاتفاق ليست سوى محاولة مفضوحة للتهرب من استحقاقات المرحلة الثانية، التي يُفترض أن تؤدي إلى انسحاب كامل وإعادة إعمار غزة.
في هذه اللعبة السياسية القذرة، يستخدم الاحتلال المساعدات الإنسانية كسلاح تفاوضي، ويحاول عبر الابتزاز والتضليل تحويل الضحية إلى متهم. إنه النموذج الكلاسيكي لـ"قلب الحقائق"، حيث يصبح المُعتدى عليه مطالبًا بتقديم التنازلات، بينما يُمنح المعتدي الوقت والغطاء السياسي لمواصلة عدوانه.
أين يقف المجتمع الدولي؟
ربما يكون السؤال الأكثر إلحاحًا هنا: أين المجتمع الدولي من كل هذا؟ الجواب المؤسف هو أن النظام العالمي الحالي، الذي يُفترض أنه قائم على القانون الدولي وحقوق الإنسان، أثبت مرة أخرى أنه ليس سوى أداة في يد القوى العظمى. الدعم الأمريكي غير المشروط للكيان الصهيوني، والصمت الأوروبي المريب، والتخاذل العربي الرسمي، كلها عوامل تجعل من الاحتلال قوة مارقة لا تخشى العقاب.
لكن الأمل الحقيقي لا يكمن في الأنظمة الحاكمة، بل في الشعوب الواعية والحركات التضامنية. الضغط الشعبي والمقاطعة الدولية والمقاومة الشعبية هي الأدوات الحقيقية القادرة على زعزعة هذا النظام الظالم.
في النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بوقف إطلاق النار، بل بإنهاء نظام الاحتلال والتمييز العنصري بشكل كامل. حيث أنه لن يتحقق الأمن والاستقرار في المنطقة إلا بإنهاء الاحتلال، ورفع الحصار، وإعادة إعمار غزة، وضمان حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
إن كان هناك درس واحد تعلمناه من التجارب التاريخية، فهو أن الأنظمة الاستعمارية والعنصرية لا تتخلى عن هيمنتها طواعية. وحده الضغط الشعبي، والمقاطعة الدولية، والمقاومة المشروعة، هي التي ستُجبر الاحتلال على الرضوخ للعدالة.
فالسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس ما إذا كان الاحتلال سينهار — فهذا أمر حتمي في نهاية المطاف — بل كم من الأرواح ستُزهق قبل أن يُدرك العالم أن الوقت قد حان للتحرك؟
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]