وفقاً لهذا المقال الذي نشره موقع صحيفة "طهران تايمز – Tehran Times" وترجمه موقع الخنادق، فإن إحدى أبز تداعيات العدوان الإسرائيلي الأمريكي على الجمهورية الإسلامية في إيران، هي ما أوجده من بحث داخلي حول تحديد مفهوم "الكرامة" بمعناه الوطني، وانعدام بالنظام العالمي بأسره. فوفقاً لكاتبة المقال فاطمة كافند، تعود جذور أزمة الثقة هذه إلى السنوات التي سبقت الحرب، فالاتفاق النووي الإيراني، الذي كان رمزاً للأمل والانخراط الدولي، مثّل فرصة لإعادة ربط إيران بالنظام العالمي. لكن انهياره — ولا سيما بعد الهجوم العسكري عام 2025 — جعل الدبلوماسية بلا معنى في نظر كثير من الإيرانيين. وأن المفاوضات لم تعد تُرى كوسيلة لحلّ الأزمات، بل كعلامة سذاجة.
النص المترجم:
صبيحة الهجوم الإسرائيلي على طهران كانت أشبه بلحظات الصدمة التي عرفتها المدن الكبرى بعد كوارثها: شوارع صامتة، صفارات إنذار متقطّعة، وعيون لا تعرف بعد كيف تنظر إلى العالم من جديد. ووفق الأرقام الرسمية، فقد أكثر من ألف شخص حياتهم، بينهم مئات النساء والأطفال. لكن وراء هذه الأرقام، كانت أزمة أعمق تتشكّل — أزمة ثقة.
في الأيام التي تلت الهجوم، تحدّث الإيرانيون ليس فقط عن الدمار المادي، بل عن انكسار رابطٍ جماعي — الرابط بين الناس والعالم، بين الأمل والواقع. ولأول مرة منذ عقود، امتدّ انعدام الثقة ليس نحو الحكومة أو السياسيين فحسب، بل نحو النظام العالمي بأسره.
في هذا المناخ، بدأ مفهوم واحد يعاد تعريفه في الوعي الجمعي الإيراني: الكرامة. ففي النقاشات العامة، وفي كتابات الصحفيين والمحلّلين، تجاوزت الكلمة معناها الديني والتاريخي لتصبح جوهر الهوية ما بعد الحرب. وكما كتب أحد أساتذة علم الاجتماع في طهران: "الأمة الإيرانية لا تبحث عن تعويض، بل عن إعادة تعريف للمعنى".
تعود جذور أزمة الثقة هذه إلى السنوات التي سبقت الحرب. فالاتفاق النووي الإيراني، الذي كان رمزاً للأمل والانخراط الدولي، مثّل فرصة لإعادة ربط إيران بالنظام العالمي. لكن انهياره — ولا سيما بعد الهجوم العسكري عام 2025 — جعل الدبلوماسية بلا معنى في نظر كثير من الإيرانيين. لم تعد المفاوضات تُرى كوسيلة لحلّ الأزمات، بل كعلامة سذاجة.
وفي هذا الفراغ، نشأت قطيعة أخلاقية. شعر الناس أن الغرب لم يفشل سياسياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً. وكما كتبت إحدى الصحف المحلية: "الغرب أصبح أخطر من العدو، لأنه فقد مصداقيته".
انعكس هذا التحوّل في الإدراك على الإعلام والخطاب العام. تحدثت البرامج التلفزيونية وأعمدة الصحف عن "دبلوماسية محترقة". ومع ذلك، وسط هذا اليأس، بدأت تظهر مراجعة جديدة للذات: إذا وصل الحوار مع العالم إلى طريق مسدود، فربما حان وقت بدء حوار مع النفس.
في هذا التأمل، انسحبت الثقة من المستوى الدولي إلى المستوى الوطني. بدأ النخب الثقافية والاقتصادية بإعادة بناء الشبكات المحلية، بينما تحوّل الناس العاديون من انتظار التغيير الخارجي إلى إعادة تعريف المسؤولية الشخصية والجماعية.
من الألم إلى التضامن
بالنسبة لكثير من الأمم، كانت الحرب سبباً في التفتّت والانهيار. لكن في إيران، اتخذت الأمور مساراً مختلفاً. ففي الأسابيع التي تلت الهجوم، توقّع كثير من المراقبين الأجانب اندلاع احتجاجات واضطرابات. لكن البلاد ظلّت بهدوء غير متوقّع. وتجلّت مشاهد التعاون المدني والتضامن الاجتماعي في كل أرجائها.
عملت النساء في مراكز الإغاثة، وتطوّع الطلاب في المستشفيات، وتحرك المواطنون في المناطق المنكوبة. أما الإعلام المحلي، فاختار أسلوباً هادئاً توثيقياً بدلاً من الإثارة. وبالتدريج، ولدت من قلب الأزمة كرامة جماعية جديدة.
سماها علماء الاجتماع الإيرانيون "التضامن الكريم" — شكل من أشكال الوحدة الاجتماعية لا تحرّكه السلطة السياسية، بل المسؤولية الأخلاقية. وعلى وسائل التواصل، تحدث الشباب عن "إعادة بناء البلاد"، لا بمعناها المادي فحسب، بل الثقافي أيضاً. وجاء هذا التضامن من قرار جماعي: الاعتماد على الذات بدلاً من انتظار الآخرين.
لعب الإعلام دوراً محورياً في ذلك. فعلى خلاف ما كان عليه الوضع في السنوات السابقة، حين كانت هناك فجوة بين الصحافة والجمهور، نشأت الآن لغة مشتركة. ركزت التقارير والأفلام الوثائقية على شجاعة المسعفين والعمّال والمعلمين — لا كدعاية، بل كتسجيلٍ للواقع. هذا التقارب بين الواقع الإعلامي والتجربة المعيشة أعاد جزءاً من الثقة الداخلية، حتى في ظل انهيار الثقة الخارجية.
أما على الصعيد الدولي، فقد كانت ردود أفعال الإعلام الغربي على الهجوم وسقوط الضحايا المدنيين في إيران مثار جدل واسع. فالتغطية المحدودة، والتحليلات "الحيادية"، بل وحتى التبريرات العرضية، أثارت انتباه المراقبين المستقلين. ورأى النقاد في دول الجنوب العالمي أن هذا الصمت دليلٌ على ازدواجية المعايير: أن حقوق الإنسان تُستدعى فقط حين لا تتعارض مع المصالح الغربية.
ورأى العديد من المحللين أن ذلك شكّل منعطفاً رمزياً في تراجع الشرعية الأخلاقية الغربية. وكما كتب أحد المفكرين العرب: "في طهران، لم تسقط المباني فقط — بل سقط مفهوم العدالة الغربية نفسه". وقد وجدت هذه العبارة صداها في أوساط فكرية واسعة في الجنوب العالمي، فغذّت خطاباً جديداً يتحدّى الهيمنة الأخلاقية الغربية.
ولأول مرة منذ عقود، لم تُرَ إيران كقضية سياسية فحسب، بل كمرآة أخلاقية. أدرك المراقبون أن الصمت أمام المعاناة هو شكل من أشكال العنف. وفي أمريكا اللاتينية وأفريقيا كتب محللون: "العزلة الحقيقية هي عزلة الضمير الغربي، لا إيران". هذا التحوّل في الوعي العالمي، وإن كان تدريجياً، ساهم في ترسيخ المكانة الأخلاقية الجديدة لإيران في نظر الجنوب العالمي.
ولادة إيمان جديد بالذات
في الأشهر التي تلت الأزمة، شهدت إيران إعادة تعريف للمفاهيم الاقتصادية والثقافية. في الجامعات ومراكز البحوث، دخلت إلى التداول مصطلحات جديدة مثل "اقتصاد الكرامة" و"الاستقلال الناعم". هذه المفاهيم شددت على أن إعادة الإعمار لا تقوم على البنية التحتية فقط، بل على رأس المال الإنساني والثقافي.
ازدهرت حركات ريادة الأعمال المحلية، وبدأ قطاع التكنولوجيا يرسم طريقاً جديداً رغم القيود. كثير من الشركات الناشئة التي كانت تعتمد على النماذج الغربية تحوّلت إلى اعتماد اللغة والاحتياجات المحلية. وفي التعليم، برزت مبادرات لمحو الأمية الإعلامية وتشجيع إنتاج المحتوى المحلي.
أظهرت هذه التطورات مجتمعاً يعيد تعريف ذاته — لا كمجتمع صامد فحسب، بل كـ مجتمع واعٍ بذاته. فبينما كانت الاستقلالية تُفهَم سابقاً كفكرة سياسية، امتدّت الآن لتشمل المجالات الثقافية والتكنولوجية والأخلاقية.
والأهم أن هذا الإيمان الجديد بالذات لم يُفرض من الأعلى، بل نما من القاعدة، من الناس أنفسهم. في الحوارات العامة — من أصحاب المشاريع الصغيرة إلى المعلمين والفنانين — أعيد تعريف الكرامة لتصبح الاعتماد على الذات والثقة بالنفس.
لم يكن هجوم عام 2025 اختباراً لقدرة إيران العسكرية فحسب، بل لصلابتها الاجتماعية والأخلاقية. ومن عمق الأزمة، وُلد مجتمع أكثر اعتماداً على نفسه. وبينما ظلّ النظام الدولي أسيراً لصراعات القوة، عاشت إيران تجربة مختلفة: إعادة بناء المعنى وسط الخسارة.
هذا المسار حوّل إيران من موقع الضحية إلى موقع الفاعل. أصبحت الكرامة ليست شعاراً سياسياً، بل إطاراً أخلاقياً للتعامل مع العالم. وبينما يلتزم الغرب الصمت إزاء أزمته الضميرية، تردّ إيران بتجديدٍ أخلاقي من الداخل.
قد ينظر العالم إلى طهران بعدُ بريبة، لكن داخل البلاد، تجذّر تحوّل عميق: عودة إلى الذات، وإعادة تعريف للقيمة، وثقة بالقدرة على بناء المعنى — حتى من تحت الرماد. وكما كتب أحد المثقفين الإيرانيين في افتتاحيته: "احترقت إيران بالنار، لكنها أعادت اكتشاف معنى أن تكون إنساناً".
المصدر: طهران تايمز - Tehran times
الكاتب: غرفة التحرير