السبت 18 تشرين أول , 2025 10:27

مركز "منع إعادة التأهيل": كبح التسلح في الساحة اللبنانية!

في خضم حرب الاستخبارات بين الكيان الإسرائيلي وحزب الله، اتجهت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) نحو تحوّل جوهري في بنية تفكيرها العملياتي وعقيدتها العسكرية لتحويل الإنجازات التكتيكية الى إنجازات إستراتيجية، عبر إنشاء قسم جديد يعرف باسم «مركز منع إعادة التأهيل». هذا المركز، الذي يتبع مباشرة لشعبة أمان، ويعمل تحت إشراف قسم الأبحاث والاستخبارات العملياتية، يمثّل بحسب الرواية الاسرائيلية نقطة تحول في إدارة الصراع مع حزب الله وإيران، من استراتيجية «الردع عبر العقاب» إلى مفهوم أكثر تقدّمًا هو «المنع عبر الإجهاض المسبق». 
يهدف هذا المركز بحسب وسائل الاعلام الاسرائيلية إلى منع "العدو" من إعادة بناء قوته العسكرية بعد كل جولة قتال، من خلال مزيج من الرصد الاستخباري، والتحليل التقني، والضربات الاستباقية الدقيقة التي تستهدف مراحل التصنيع والنقل والتجميع... قبل أن تتحول إلى تهديد فعلي. وهو ما تسميه الأوساط الأمنية الإسرائيلية بـ«هندسة المنع» — أي تفكيك منظومة القوة المعادية وهي في طور التشكل، وليس بعد أن تكتمل وتتحول إلى منظومة قتالية يصعب احتواؤها.
ووفق ما أوردته صحيفة «يسرائيل هيوم» وموقع «والّا»، فإن هذا المركز الجديد هو مشروع مشترك بين مديرية الأبحاث في أمان، ووحدة إدارة الأهداف في سلاح الجو، وذراع الحرب السيبرانية، بالتعاون مع وحدة خاصة من الموساد مكلّفة بتعقب التمويل والدعم الخارجي لعمليات إعادة التسليح. ويقع المقرّ التنفيذي للمركز ضمن مجمّع “الكرياه” الأمني في تل أبيب، حيث يجري تنسيق مباشر بينه وبين «غرفة المراقبة الجوية» ووحدات الاستهداف الدقيقة.
ويُعدّ هذا المركز نتاج تجربة السنوات الأخيرة في سوريا ولبنان، حيث اكتشفت إسرائيل أن سياسة “المعركة بين الحروب” لم تمنع حزب الله من ترميم قدراته بعد كل ضربة، بل دفعته لتطوير منظومات أكثر تمويهًا وسرية. من هنا جاء القرار بعد الحرب الأخيرة بإنشاء بنية استخبارية هجينة تتعامل مع عملية إعادة البناء كـ«مشروع عدائي متكامل» وليس كحوادث معزولة.
يعتمد المركز الجديد نموذجًا متقدّمًا من الدمج الاستخباري – العملياتي، حيث تُجمع المعلومات من مصادر متعددة: صور الأقمار الصناعية (IMINT)، إشارات الاتصالات (SIGINT)، المصادر البشرية (HUMINT)، والرصد السيبراني (CYBINT)، إلى جانب التحليل الطيفي والحراري (MASINT) لتتبّع الأنشطة الصناعية والعسكرية في مواقع يشتبه بأنها تعيد إنتاج قدرات حزب الله الصاروخية أو الدفاعية. وتُستخدم تقنيات MASINT لتحديد نوع الوقود، والمكوّنات المعدنية، وحتى درجات الحرارة الناتجة عن تشغيل معدات محددة، مما يتيح رسم صورة دقيقة لمستوى النشاط داخل المنشآت المغلقة.
وبحسب مزاعم القناة 12 الإسرائيلية، فإن فريق ال MASINT داخل المركز تمكن مؤخرًا من رصد إشارات حرارية متكررة في إحدى ضواحي البقاع اللبناني، تُطابق نمط تشغيل محركات صاروخية قصيرة المدى، وهو ما أدى إلى تنفيذ ضربة دقيقة بعد ساعات فقط. هذا المثال يوضح فلسفة العمل الجديدة: من المستشعر إلى المنفّذ (Sensor-to-Shooter) خلال دقائق معدودة، بحيث لا تُمنح الخصوم فرصة لإخفاء الأدلة أو تفكيك خطوط الإنتاج.
إلى جانب القدرات التقنية، يتولى المركز أيضًا إدارة “هندسة المنع المالية”، أي تتبع مصادر التمويل الإيرانية، وتحليل شبكات الشركات التي تُستخدم كغطاء لشراء مواد أو أجهزة ذات استخدام مزدوج. وبحسب معهد الدراسات الأمنية القومي الإسرائيلي (INSS)، يجري التنسيق بين المركز ووحدة مالية استخبارية جديدة داخل وزارة الدفاع اضافة الى جهاز الموساد، تتبع مبدأ “تتبّع المال” (Follow the Money)، بهدف خنق الدعم اللوجستي قبل وصوله إلى الساحة اللبنانية.
ولأن هامش الخطأ في هذا النوع من العمليات مرتفع جدًا، فقد أنشئت داخل المركز وحدة قانونية استشارية تعمل على تقدير شرعية الهدف قبل المصادقة عليه، في محاولة لتقليل احتمالات استهداف منشآت مدنية أو التسبب بخسائر غير مقصودة قد تثير انتقادات دولية. ومع ذلك، تُشير صحيفة «هآرتس» إلى وجود خلافات داخل المؤسسة الأمنية حول مدى قانونية بعض الضربات في لبنان، خصوصًا تلك التي استهدفت مخازن داخل مناطق مأهولة.
في المقابل، تؤكد تقديرات في معهد CSIS الأمريكي أن قدرة المركز على إعاقة برامج إعادة التسليح لدى حزب الله ستبقى محدودة طالما استمر الحزب في تطبيق مبدأ «التمويه المزدوج»، أي دمج النشاط العسكري في بيئة مدنية كثيفة، ونقل التجميع إلى مناطق حضرية متداخلة يصعب رصدها إلا بثمن إنساني مرتفع.
أما في المقلب الآخر، فإن الخبراء في تل أبيب (INSS) يرون أن إنشاء هذا المركز أحدث اضطرابًا في الإيقاع اللوجستي لحزب الله، الذي بات مجبرًا على تقليص حجم الورش، وتبديل مواقعها باستمرار، وتقليل عدد المنخرطين في عمليات النقل والتخزين خوفًا من الاختراق. وبهذا المعنى، فإن مجرد وجود هذا المركز – حتى قبل أن يحقق كل أهدافه – قد فرض «تأثيرًا ردعيًا استخباريًا» يتمثل في تعطيل زمن الإنتاج، وخلق حالة شلل تكتيكي داخل منظومة البناء العسكري للحزب.
ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل المخاطر المتصاعدة لهذه السياسة، إذ يُحذّر بعض الضباط السابقين في أمان من أن التحوّل نحو “الضربة الوقائية المستمرة” قد يؤدي إلى انفجار مواجهة شاملة مع حزب الله، خاصة في حال أدى أي خطأ استخباري إلى سقوط ضحايا مدنيين. وتُشير تحليلات “والّا” إلى أن بنك الأهداف الذي أعدّه المركز بات يشمل أكثر من 120 موقعًا في لبنان وسوريا، بعضها يُصنَّف «ذو طبيعة مدنية مزدوجة»،
بدوره يواكب الإعلام الإسرائيلي هذا التطور بحملة تبريرية مكثّفة لتسويغ فلسفة «المعركة بين الحروب»، ووصم كل عملية اغتيال أو استهداف بأنها «دفاع استباقي» مشروع ضمن مبدأ الأمن القومي، في مواجهة الانتقادات الحقوقية المتزايدة من مؤسسات مثل “بتسيلم” و“هيومن رايتس ووتش”. وهنا يبدو أن إسرائيل لا تحارب فقط في الميدان، بل أيضًا على مستوى الرواية والشرعية.
إن سلسلة الضربات الأخيرة في لبنان والتي استهدفت مصانع ومنشآت  مدنية — من ورش إسمنت ومستودعات وقواعد لعرض الآليات الثقيلة إلى معارض ومواقع إصلاح معدات — تُقدَّم في الإعلام الإسرائيلي كجزء من نشاط «مركز منع إعادة التأهيل»، الذي يزعم ارتباط هذه المنشآت بشبكات إعادة التسلّح والبنية التحتية اللوجستية الخاصة بحزب الله. وتزعم وسائل الإعلام العبرية أن الهدف من هذه الاستهدافات ليس تدمير منشآت مدنية بحد ذاتها، بل تعطيل حلقات سلسلة إمداد وتجميع يُشتبه بأنها تُستخدم كواجهة لإنتاج وتجميع ذخائر ومكوّنات حساسة؛ وهو ما برَّرته دوائر الأمن كـ«هندسة منع» تستهدف مراحل التكوين لا المنتج النهائي. في المقابل، ردت التقارير اللبنانية والدولية بتنديد واسع بهذه الضربات واعتبارها ضربًا لجهود إعادة الإعمار في جنوب لبنان، ما يضع المطالب القانونية والإنسانية في مواجهة الرواية الإسرائيلي المضللة.
في المحصلة، يمكن القول إن إنشاء «مركز منع إعادة التأهيل» يشكل ذروة مشروع إعادة هيكلة الذراع الاستخبارية الهجومية داخل شعبة أمان بعد الجولة الأخيرة في لبنان، وتحويلها إلى آلة استباق استخباري هدفها  تدمير القوة في مهدها. غير أن هذه القدرة الجديدة، رغم فاعليتها التقنية، معرضة للفشل اذا نجح حزب الله في تحقيق السرية والمرونة والتخفي. فضلا عن أن تضاعف الضغط الزمني للتنفيذ وتكاثر المصادر المتداخلة قد يؤدي الى هشاشة النجاح والفشل إذ أن التأخير في التحقق أو خطأ في التصنيف سيؤدي الى فقدان الهدف وضياعه بل الى ارتكاب أخطاء إستراتيجية ذات طابع سياسي وأمني باهظة. وبالتالي قد يتحول هذا المركز من أداة ردع الى مصدر تصعيد عسكري أو سياسي دبلوماسي غير محسوب.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور