التطبيع في لبنان ليس كغيره من الدول، فالطابع التعددي والطائفي للمجتمع اللبناني يجعل كل قضية سياسية محل انقسام طائفي، والتطبيع لن يكون استثناءً. في حين أن بعض الأطراف قد ترى في التطبيع مخرجاً من الأزمات الاقتصادية والسياسية، فإن الطوائف والقوى المؤيدة لخيار المقاومة سترى فيه تهديداً لوجودها ودورها في المعادلة اللبنانية. على الجانب الآخر، بعض القوى المسيحية قد تكون منفتحة على مناقشة التطبيع، مستندة إلى تجربة بشير الجميل عام 1982، لكن هذا سيفتح الباب أمام انقسامات داخل المجتمع المسيحي نفسه بين مؤيد ورافض لهذا الطرح. إنّ أي خطوة تطبيعية قد تعيد إحياء الانقسامات الطائفية التي ظهرت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث تباينت المواقف بين مؤيدين للاجتياح ومناهضين له، مما أدى إلى حروب داخلية واصطفافات طائفية جديدة.
على الرغم من أن الموقف الشعبي والسياسي وغالبية القوى السياسية والحزبية والشعب اللبناني تعارض أي تطبيع مع الكيان الصهيوني ولا تعترف بوجوده. إلا أن جزء من الأحزاب والتيارات قد تقبل بالتطبيع ضمن ترتيبات سياسية واقتصادية. هذه القوى تعلن رفضها العلني للتطبيع لكنها قد تتبناه ضمنياً في إطار "حل سياسي واقتصادي" للبنان، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية، والسياسات الأميركية الجديدة في لبنان بعد معركة أولي البأس. وبدأت بالفعل شخصيات إعلامية وسياسية تتحدث صراحة عن التطبيع كحل للصراع مع العدو الإسرائيلي.
من هي هذه القوى والأحزاب والتيارات والشخصيات التي قد تقبل بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي ضمن ترتيبات سياسية واقتصادية:
- القوات اللبنانية (سمير جعجع): تاريخياً، كان لديها مواقف متشددة تجاه المقاومة، ومنفتحة على علاقات مع الغرب واسرائيل. ورغم عدم تبنيها التطبيع علناً، فإنها ترى أن السلام مع إسرائيل قد يكون خياراً في سياق تسوية شاملة تنهي النزاعات في المنطقة. بعض قياداتها ترى أن التطبيع قد يكون وسيلة لإنهاء "سطوة حزب الله" وإخراج لبنان من عزلته الاقتصادية.
- حزب الكتائب (سامي الجميّل): يعارض الكتائب التطبيع علناً لكنه لا يرفض فكرة السلام إذا كان في إطار تسوية إقليمية وضمانات دولية. الحزب لديه تاريخ من العلاقة المتوترة مع الفلسطينيين، بمقابل علاقات جيدة مع الكيان الصهيوني المحتل (بشير الجميل) ما يجعله أكثر انفتاحاً على البحث عن حلول بديلة.
- بعض القوى السنية القريبة من السعودية والخليج: مع تغير الموقف السعودي تجاه الكيان الصهيوني، هناك بعض الشخصيات السنية التي قد ترى في التطبيع فرصة لتخفيف الضغوط الاقتصادية على لبنان. لكن لا يوجد موقف رسمي بسبب التوازنات الداخلية للطائفة السنية. لكن تجدر الاشارة هنا لموقف زعيم تيار المستقبل سعد الحريري الذي لم يعلن تأييده للتطبيع، لكنه لم يكن في خط المواجهة ضدّه كما هو الحال مع حزب الله أو القوى القومية. موقفه كان دائماً متوازناً وبراغماتياً، حيث التزم بالموقف الرسمي اللبناني الرافض للتطبيع لكنه لم يصعّد ضد الدول العربية التي طبّعت، ولم يجعل معاداة إسرائيل أولوية في خطابه السياسي.
- رجال أعمال ونخب اقتصادية: هناك طبقة من رجال الأعمال اللبنانيين، خاصة الذين لديهم مصالح في الخليج وأوروبا والولايات المتحدة، قد يكونون أكثر انفتاحاً على فكرة التطبيع الاقتصادي، كوسيلة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، لكنهم يتجنبون التصريح علناً.
- القوى والتيارات التي تؤيد التطبيع بشكل أو بآخر: هذه الفئة قليلة، لكن هناك أفراداً أو شخصيات مستقلة يرون أن العلاقة مع إسرائيل قد تكون ضرورة اقتصادية وسياسية، أو أن لبنان يجب أن يكون منفتحاً على كل الخيارات: مثل شخصيات ليبرالية وإعلامية: بعض الصحافيين والمثقفين يدافعون عن فكرة أن "لبنان يجب أن يخرج من الصراعات ويتبنى سياسة انفتاحية"، لكنهم لا يشكلون تياراً سياسياً قوياً. وأيضاً رجال أعمال وسياسيين محسوبين على الغرب: بعض الشخصيات التي تعيش في أوروبا وأمريكا قد تدافع عن التطبيع بحجة أن لبنان لا يستطيع البقاء في عزلة عن النظام الإقليمي الجديد. وهناك شخصيات ترى أن المقاومة عائق أمام التنمية الاقتصادية، وأن التعاون مع إسرائيل قد يفتح الباب أمام الاستثمارات الدولية.
- المجتمع المدني: بعض الفئات تؤيد التطبيع، خصوصاً من منظور اقتصادي، بينما تعارضه فئات أخرى من منطلقات قومية ووطنية. لا يُعتبر المجتمع المدني اللبناني بشكل عام موحداً أو متماثلاً في موقفه تجاه التطبيع مع الكيان، حيث يشمل المجتمع المدني في لبنان مجموعة واسعة من الجماعات والفعاليات التي قد تتفاوت مواقفها من القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل. ولكن هناك بعض القوى أو الشخصيات داخل المجتمع المدني التي يمكن أن تُعتبر مؤيدة أو متقبلة للتطبيع ضمن سياقات معينة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية والضغوط السياسية.
- شخصيات ليبرالية وحقوقية: هناك بعض الشخصيات الحقوقية والسياسية التي تدعو إلى فتح علاقات اقتصادية أو سياسية مع إسرائيل من أجل إنهاء العزلة الدولية عن لبنان وتحقيق استقرار اقتصادي. هؤلاء غالباً ما يرون أن التطبيع يمكن أن يسهم في استقرار لبنان بعيداً عن المحاور الإقليمية المتنازعة. أيضاً بعض الحقوقيين والمثقفين في لبنان يطرحون الانفتاح على إسرائيل من أجل إقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية، معتبرين أن هذا يفتح الباب أمام إعادة إعمار لبنان وتحسين وضعه الاقتصادي.
- نخب اقتصادية ورجال أعمال: بعض رجال الأعمال اللبنانيين الذين تربطهم علاقات اقتصادية مع الغرب والخليج يرون أن لبنان بحاجة إلى الانفتاح على إسرائيل على المستوى الاقتصادي للتخفيف من العزلة المالية التي يعاني منها البلد. هؤلاء قد يدعون إلى التعاون التجاري والاستثماري مع إسرائيل خصوصاً في مجالات مثل الغاز والطاقة. أيضاً الطبقة الاقتصادية اللبنانية التي تسعى إلى إيجاد فرص اقتصادية جديدة قد تكون أكثر انفتاحاً على فكرة التطبيع، لكنهم عادة ما يتجنبون الإعلان عن ذلك علناً لأسباب سياسية.
- بعض الشخصيات الإعلامية والفكرية: هناك بعض الشخصيات الإعلامية والمفكرين اللبنانيين الذين يُروجون لفكرة التعاون مع إسرائيل في سياق حلول اقتصادية أو دبلوماسية. هؤلاء قد يطرحون التطبيع كأداة لإنهاء النزاعات الإقليمية وتحقيق مصالح اقتصادية للبنان. على سبيل المثال، بعض الإعلاميين والكتاب الليبراليين قد يرون في التطبيع مع إسرائيل فرصة لتحسين صورة لبنان الدولية، وفتح أسواق جديدة، وتخفيف الضغوط على النظام المصرفي اللبناني.
- بعض الحركات والمجموعات الصغيرة المؤيدة للغرب: كالتيارات السياسية المدعومة من الغرب أو تلك التي تنتمي إلى التيار الليبرالي قد تكون أكثر تأييداً لفكرة السلام مع إسرائيل، لكنها غالباً ما تكون أصواتاً صغيرة داخل المجتمع المدني، ولا تتمتع بتأييد جماهيري واسع. هذه الحركات قد ترى في التطبيع وسيلة لإنهاء أي تأثير لإيران في لبنان، وبالتالي دعم إعادة توجيه لبنان نحو الغرب، بعيداً عن الصراعات الإقليمية.
- بعض الشخصيات السياسية المعارضة للمقاومة: بعض الشخصيات اللبنانية المعارضة لحزب الله قد تدعم تطوير علاقات غير مباشرة مع إسرائيل من أجل تقليل حضور إيران على الساحة المقاومة في لبنان، وهم يعتبرون أن التطبيع مع إسرائيل قد يكون خطوة نحو إعادة هيكلة النظام السياسي اللبناني بشكل يتماشى مع المصالح الغربية والعربية. هؤلاء الشخصيات عادة ما يرون في التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل وسيلة لتخفيف العزلة عن لبنان اقتصادياً، ويعتبرونه جزءً من عملية سلمية شاملة في المنطقة.
يهدف التطبيع إلى إدخال لبنان ضمن منظومة إقليمية أمنية واقتصادية يقودها الكيان، مما قد يستلزم تحجيم دور المقاومة اللبنانية. ويأتي ملف التطبيع ضمن اتفاق إقليمي سيفرض قيوداً على القدرات العسكرية للمقاومة، مما يعني تحوّل لبنان من بلد يشكّل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل إلى بلد محايد أو حتى تابع للمنظومة الجديدة. وهذا قد يعزز النفوذ الإسرائيلي في المنطقة ويضعف القدرة اللبنانية على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية مستقبلاً.
الكاتب: غرفة التحرير