الخميس 17 تموز , 2025 04:12

"جنود إسرائيل" على حافة الفناء النفسي: السياسة تهزم الإنسان قبل الأرض

جنود إسرائيليون

بين القوة الغاشمة والانتحار الصامت

لم يحدث في تاريخ الحروب الحديثة أن تحوّلت القوة الغاشمة إلى أداة انتحار ذاتي كما يحدث اليوم في صفوف "الجيش الإسرائيلي". فمنذ اندلاع حرب "طوفان الأقصى"، تكشف الأرقام المتزايدة لحالات الانتحار في صفوف "الجنود الإسرائيليين" عن أزمة وجودية عميقة داخل جيش يُفترض أنه الأقوى في المنطقة. هذه الظاهرة، التي أصبحت تُرصد بشكل يومي تقريبًا، لا تنفصل عن بنية المشروع الصهيوني القائم على الاستعمار والعنف، ولا عن التحولات العميقة التي طرأت على طبيعة المواجهة العسكرية مع المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي أثبتت أن "الردع الإسرائيلي" يتآكل ليس فقط في الميدان، بل أيضًا في الوعي، وفي الروح المعنوية لجنوده.

الانتحار كظاهرة… لا كحالات فردية

منذ بداية الحرب، انتحر أكثر من 44 "جنديًا إسرائيليًا"، وهو رقم يعكس حجم الأزمة النفسية التي يعاني منها أفراد جيش الاحتلال. ما يدعو للتأمل أن هذه الحالات لا تقع بعد الحرب كما كان الحال سابقًا، بل خلال المعارك، أي أن الجندي لم يعد قادرًا على الصمود حتى نهاية المعركة. هذا تطوّر نوعي، وصفه رئيس مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي في "إسرائيل"، يوسي تيفي بلز، بأنه غير مسبوق، موضحًا أن "الجنود لم ينتظروا انتهاء العمليات العسكرية كي ينهاروا… لقد انهاروا من اليوم الأول".

تقول الأرقام إن الانتحار بات السبب الثاني لفقدان الحياة داخل الجيش بعد القتال المباشر، وهو ما يفضح الفجوة الهائلة بين الصورة الإعلامية للقوة "العسكرية الإسرائيلية" وبين الواقع النفسي المتصدع لجنودها.

 الكمائن والوحشية… حين تحوّل الفاعل إلى ضحية

يرتبط هذا الانهيار النفسي جزئيًا بتكتيكات المقاومة الفلسطينية، التي حوّلت شوارع غزة إلى حقول ألغام ميدانية ونفسية في آن واحد. فالمعارك التي خاضها "الجنود الإسرائيليون" في مناطق مثل الشجاعية وجباليا وخان يونس وبيت حانون اتّسمت بكمائن معقّدة، اشتباكات غير متوقعة، وخسائر متكررة دون أي تقدم استراتيجي واضح.

هذا النوع من المواجهات يُدخل الجندي في دوامة شعورية من الخوف والذنب: الخوف من الموت، والذنب مما يرتكبه من فظائع بحق المدنيين. عدد كبير من المنتحرين كانوا ممن شاركوا في "عمليات تطهير" داخل غزة، وعايشوا لحظات مرعبة، أو تولّوا مهامًا قذرة، كجمع جثث رفاقهم أو تفتيش الأنفاق.

الجندي دانيئيل إدري، على سبيل المثال، لم يحتمل ذكريات الأجساد المحترقة، فأحرق جسده في وضح النهار. أما إليران مزراحي، فلم يتحمّل 78 يومًا في غزة… قالوا عنه إنه خرج من غزة، لكن أمه أكدت أن غزة لم تخرج منه.

 اضطراب ما بعد الصدمة… الجماعي

يشير تقرير عسكري "إسرائيلي" إلى أن 75% من المحاربين القدامى طلبوا دعمًا نفسيًا بعد الحرب، وأن الجيش اضطر إلى تشغيل 800 أخصائي نفسي. وهذا رقم غير مسبوق، ويعني أن ما يقارب ثلث الجنود الذين شاركوا فعليًا يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مثل الكوابيس، فقدان المعنى، نوبات الغضب، العزلة، وفقدان الشعور بالغاية، وهي ما يسمى في الأدبيات النفسية بـ"إصابات الهوية".

الوضع يزداد سوءًا مع اقتراب نهاية العمليات العسكرية، إذ يتوقع الجيش ارتفاعًا كبيرًا في أعراض PTSD. الصحف تتحدث عن ما لا يقل عن خمسين ألف حالة نفسية ستحتاج إلى علاج مستمر بعد الحرب، وهي أرقام "مرعبة" في جيش قوامه الفعلي لا يتعدى مئة وخمسين ألفًا.

البنية العسكرية كعامل قمع نفسي

ما تكشفه التقارير أيضًا هو أن البيروقراطية العسكرية الصهيونية باتت تشكّل عاملًا من عوامل الضغط على الجنود بدلًا من أن تكون نظام دعم. فهناك قمع ممنهج لكل جندي يعترف بضعفه أو يشكو، وهناك عقوبات تصل إلى المحاكمة والسجن لمن يرفض تنفيذ الأوامر أو يخالف قاعدة "الصمت المعنوي". بعض الجنود حُكم عليهم بغرامات مالية بسبب اعترافهم بأنهم غير قادرين على القتال.

هذه المنظومة القمعية لا تُظهر سوى حقيقة واحدة: أن المؤسسة العسكرية الصهيونية لا ترى الجنود سوى كأدوات. ولعل ما قاله أحد الضباط يعكس هذا المنطق حين برّر إعادة الجنود المرضى نفسيًا إلى ساحات القتال بعبارة: "نحن بحاجة إلى أكبر عدد من البنادق. سنتعامل مع العواقب لاحقًا".

تجنيد المصابين نفسيًا… الأزمة البنيوية

بسبب النقص الحاد في القوى البشرية، بات "الجيش الإسرائيلي" يستعين حتى بمن يعانون من اضطرابات نفسية سابقة، دون تمحيص أو تشخيص كافٍ. الضغوط المتزايدة جعلت الجيش يُسقط معايير الفحص العقلي، فالمهم هو عدد البنادق، وليس مدى قدرة حامليها على المواجهة. ومع تصاعد الانهيارات النفسية، عاد الجيش لتجنيد من يعانون من إعاقات عقلية تفوق 50%، أي أنه يدفع بهم عمدًا نحو حافة الانفجار.

الاحتلال كعامل تفكك نفسي… لا مشروع قومي

ما لا تريد "المؤسسة الإسرائيلية" الاعتراف به هو أن جوهر الأزمة أعمق من الحرب نفسها. إنها أزمة "المعنى". فالجندي لا يحارب دفاعًا عن وطن، بل يحارب في مشروع استعماري عنصري، ضد شعب يطالب بحقه في التحرر والكرامة.

في هذه الحرب، لم تعد "أسطورة الجيش الأخلاقي" قابلة للتصديق حتى بين الجنود أنفسهم. فكلما تعمقت الوحشية، زاد الاغتراب النفسي. الصور التي ينشرها الجنود لأنفسهم وهم يضحكون فوق جثث الفلسطينيين، أو يتفاخرون بتدمير منازل، تتحول إلى كوابيس لاحقًا. فالضمير لا يُقمع إلى الأبد.

ولعل عبارة "لقد أصبحت خطرًا… قنبلة موقوتة"، التي كتبها الجندي إدري، تلخص تمامًا هذه المعادلة.

مقارنة تاريخية: هل يعيد التاريخ نفسه؟

ظاهرة الانتحار في الجيوش ليست جديدة، وقد شهدتها جيوش كبرى في لحظات الهزيمة أو التراجع الاستراتيجي. في نهاية الحرب العالمية الثانية، انتحر مئات الجنود الألمان بعد فقدانهم الإيمان بانتصار الرايخ. وفي العراق وأفغانستان، سجّلت الجيوش الأميركية معدلات انتحار غير مسبوقة، دفعت البنتاغون إلى الاعتراف بأن "الانتحار هو أعقد مشكلات الجيش الأميركي".

الفارق اليوم أن ما يحدث "للجنود الإسرائيليين" ليس في لحظة انسحاب أو هزيمة شاملة، بل أثناء المعركة، أي أن الانهيار النفسي يسبق حتى الانهيار العسكري، وهذه ظاهرة فريدة لم تعشها "إسرائيل" من قبل.

من الحرب إلى الدولة: آثار زلزالية مقبلة

ما يجري في غزة اليوم لا يخص الجيش فقط، بل سينعكس حتمًا على "المجتمع الإسرائيلي" ككل. آلاف الجنود العائدين سيشكّلون قنبلة اجتماعية موقوتة. الاضطرابات النفسية ستنعكس في العلاقات الأسرية، الجريمة، الانعزال، وحتى الانفجار السياسي داخل "المجتمع الإسرائيلي"، خاصة إذا ما عادت الحرب دون تحقيق "نصر واضح".

يجب أن نتذكّر أن الكيان الصهيوني لا يمكنه الاستمرار دون جيش قوي نفسيًا قبل أن يكون قويًا عسكريًا. وحين يبدأ هذا الجيش في التآكل من الداخل، فإن المشروع الصهيوني نفسه يصبح معرضًا للانهيار.

حين ينتحر الجندي… ينهار السرد

في النهاية، الانتحار ليس حدثًا فرديًا، بل هو فعل رمزي عميق، يكشف تهاوي السردية الكبرى التي قام عليها "الجيش الإسرائيلي": التفوق، الثقة، الأخلاق، والمناعة. حين يضغط الجندي على الزناد، لا يُنهي حياته فقط، بل يُنهي جزءًا من الرواية الصهيونية نفسها.

هؤلاء ليسوا فقط "ضحايا طوفان الأقصى"، بل هم في الحقيقة "ضحايا المشروع الصهيوني"، حين يتهاوى تحت ثقل أكاذيبه، وتبدأ أسطورته العسكرية بالذوبان في لهيب الواقع.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور