الإثنين 14 تموز , 2025 04:19

المعركة التي تُدار بالصمت: المقاومة تباغت "القوة الإسرائيلية" وتعيد هندسة الميدان

أبو عبيدة ومقاطع مصورة من حركة حماس

من يقرأ ما يجري في قطاع غزة منذ سنوات، لا يحتاج كثيرًا من التأمل ليدرك أن "إسرائيل" لا تخوض حربًا عادلة أو عقلانية، بل تنغمس في مشروع استعمار متجدد مموّه بلغة "الأمن القومي". ومع استئناف الحرب في مارس/آذار 2025، بعد أن تخلت تل أبيب عن اتفاق الهدنة، تحولت غزة إلى ما يشبه مختبرًا مفتوحًا لاختبار القوة والسيطرة، لكنها أيضًا تحوّلت إلى مستنقع استنزاف لحرب لم تعد نتائجها تصب إلا في خانة الشكوك حول جدوى استمرارها.

في قلب هذه المعادلة، تتبدى المقاومة الفلسطينية لا كمجرد ردّ فعل على عدوان، بل كمشروع تحرري صلب، يتقن العمل في الظلال ويتغذى من فشل الاستراتيجيات "العسكرية الإسرائيلية" المتكررة. وهذا يعيدنا إلى الأساس: الاحتلال ليس مجرد فعل عسكري، بل مشروع سياسي استيطاني، والمقاومة ليست مجرد رد فعل، بل هي التعبير الأكثر نضجًا عن نفي هذا المشروع.

جغرافيا التوغّل.. وحدود السيطرة الإسرائيلية

يبدو أن "الجيش الإسرائيلي" لم يتعلم شيئًا من دروس التاريخ ولا من دروس الأشهر التسعة الماضية. تعكس تحركاته في مناطق مثل الشجاعية، جباليا، الزيتون وخان يونس نمطًا تكراريًا من الفشل: دخول ثم انسحاب، ثم دخول آخر، فخسائر وانهيار معنويات، ثم روايات انتصار وهمية.

لكن ما الذي يدفع الجيش لتكرار هذه الاستراتيجية؟ الجواب بسيط: غياب أي بديل سياسي واستراتيجي حقيقي. فـ"إسرائيل" لا تمتلك في غزة مشروعًا سوى التدمير، وهي عاجزة عن فرض سلطة بديلة لحماس، وأعجز من أن تبني نظامًا سياسيًا يمكنه أن يحكم القطاع.

ولهذا السبب، يظل التوغّل وسيلة مفرغة من أي مضمون استراتيجي، غير مراكمة الوقت في انتظار متغير خارجي، كضغط أميركي أو انهيار داخلي في حركة المقاومة.

لكن حتى هذا التعويل بات عقيمًا.

هندسة المعركة من جانب المقاومة

بعيدًا عن الشعارات والانفعالات، تقدم المقاومة الفلسطينية نموذجًا متقدما في حرب العصابات الحديثة. فعلى عكس الجيوش النظامية، لا تحتاج المقاومة إلى احتلال أرض لتعلن النصر. يكفيها إلحاق الخسائر، وتدمير صورة "الجيش الذي لا يُقهر، وبث الرعب في نفوس جنوده وضباطه.

عملية تفجير دبابات ميركافا، محاولات أسر الجنود، كمائن التفاح وعبسان، كلها ليست فقط عمليات تكتيكية بل رسائل استراتيجية، مفادها أن المقاومة باتت تتحرك بثقة، وتملك معرفة دقيقة بتوزع "القوات الإسرائيلية"، كما تتحكم بوتيرة التصعيد.

نحن هنا أمام مقاومة تعرف متى تضرب، وأين، وكيف، والأهم: تعرف لِمَ تضرب.

الحرب النفسية.. حين تنقلب الصورة

لم تعد إسرائيل تحتكر "الرواية. مقاطع الفيديو التي تبثها كتائب القسام وسرايا القدس باتت بمثابة حرب نفسية فعالة، تهشم صورة "الجندي الإسرائيلي" في وعي جمهوره، وتكسر أسطورة التفوق التقني والتكتيكي.

مقطع محاولة أسر الجندي شرقي خان يونس، لم يكن مجرد توثيق عملية بل إعادة كتابة كاملة لمفهوم الردع. الجندي يهرب، المقاومة تسيطر على جثته، تأخذ سلاحه وتغادر بهدوء. المعركة هنا نفسية بقدر ما هي عسكرية.

"الرسالة للإسرائيليين" ليست أن جيشكم يخسر فقط، بل أن جنودكم ينهارون عند أول مواجهة. وهذا يمس "الكرامة الوطنية" "الإسرائيلية"، تمامًا كما أصابت حرب فيتنام أميركا في كبريائها القومي.

نتنياهو وأوهام البقاء

بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، لا يخوض الحرب من أجل الأمن، بل من أجل البقاء السياسي. كل قراراته مرتبطة بأجندة داخلية: تأجيل الانتخابات، ضرب القضاء، تصفية حلفائه، وخلق "عقيدة دائمة" لاحتلال غزة.

رفضه الواضح للانسحاب، وتصريحاته حول "تفكيك حماس ونزع سلاحها خلال 60 يومًا" ليست سوى ذرائع لتبرير استمرار العدوان. لكنه يدرك -كما يدرك قادة جيشه- أن لا نزع للسلاح ولا تفكيك لحماس في الأفق، بل مقاومة باتت أكثر تنظيمًا وجرأة.

وهنا تكمن المفارقة: كلما طال أمد الحرب، زادت تكلفة استمرارها، ليس على غزة وحدها، بل على إسرائيل نفسها.

حرب الاستنزاف كأداة تفاوض

ما تفعله المقاومة ليس فقط قتالًا ميدانيًا، بل إدارة ذكية للصراع. المقاومة اليوم تفاوض بالنار. كل عملية هي بند على طاولة الدوحة. كل جندي يُقتل، كل دبابة تُفجر، كل فيديو يُبث، هو ضغط إضافي يدفع إسرائيل نحو التسوية، أو نحو الانهيار.

وبالمقابل، فإن الرغبة "الإسرائيلية" في الحفاظ على "منطقة آمنة" في غزة لبناء "مدينة إنسانية" ليست مشروعًا تنمويا بل محاولة خبيثة لفرض واقع تهجيري، يفرغ القطاع من مقاومته، ثم يدّعي أن ما تبقى هو "إنسانية" دون كرامة أو سيادة.

تكلفتها؟ 6 مليارات دولار. فعاليتها؟ صفر. لأنها تقوم على فرضية خاطئة: أن الفلسطيني يقايض حقه الإنساني بحقوقه الوطنية.

الجيش كشرطي مدني.. عبء لا يُحتمل

حتى جيش الاحتلال نفسه لا يريد هذه المدينة. يدرك أن البقاء في غزة يعني التحول من جيش مقاتل إلى شرطة محلية. يعني قتل الروح العسكرية، وتعميق أزمة الهوية داخل صفوفه، وتحميله أعباء مالية وسياسية تفوق قدرته على الاحتمال.

ولهذا تتزايد الانتقادات داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وسط تسريبات عن غياب أهداف واضحة، وفقدان الثقة بالقيادة السياسية، وتضارب الرؤى بين هيئة الأركان ونتنياهو.

إيال زامير، رئيس الأركان الجديد، يحاول رسم "نصر رقمي" أمام الكاميرات، لكنه يدرك أن ما يعانيه الجيش هو انهيار بنيوي في مفهوم الحرب نفسه: كيف تقاتل من لا يخاف الموت؟ كيف تنتصر على فكرة؟

ما بعد الحرب.. معركة الوعي والسيادة

المقاومة تدرك أن المعركة الحقيقية تبدأ بعد الحرب. هذه ليست فقط معركة سلاح، بل معركة وعي، ورواية، وشرعية. فمن سيحكم غزة؟ من سيمنع التهجير؟ من سيعيد بناء الأنقاض دون أن يربط الإعمار بالولاء السياسي؟

"إسرائيل" تريد حماس بدون سلاح، ولكنها لا تريد السلطة الفلسطينية أيضًا. تريد غزة بدون مقاومة، ولكنها تخشى الفوضى. تريد الأمن دون ثمن سياسي. وهذا ما يجعل مشروعها يتخبط في دائرة مغلقة.

بينما على الطرف الآخر، المقاومة تعرف أن تثبيت الوجود لا يتم بالخطابات، بل بالدم والحنكة والقدرة على الإمساك بالأرض والسياسة معًا.

غزة كأفق تحرر

غزة ليست فقط مساحة جغرافية ضيقة تقاتل من أجل البقاء. هي اليوم مختبر عالمي يعيد تعريف مفاهيم السيادة، الردع، الكرامة. وهي بوصلة أخلاقية في زمن تهشمت فيه المعايير الدولية، وصمتت فيه المؤسسات.

الاحتلال، وإن طال، يظل عبئًا على من يحمله. والمقاومة، وإن نزفت، تظل وعدًا لأرض تحررت مرات ومرات رغم العتمة.

في النهاية، لا يربح من الحرب من يملك الدبابات، بل من يملك القصة الأصدق. وغزة، في هذا السياق، تكتب اليوم سردية لا تموت.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور