الإثنين 19 أيار , 2025 03:43

انهيار داخلي صامت: كيف تمزق الحرب على غزة البنية النفسية للجيش "الإسرائيلي"؟

جرحى وقتلى الجيش الإسرائيلي

في الأدبيات الكلاسيكية للدولة الحديثة، يُفترض أن الجيش هو العمود الفقري للنظام السياسي، أداة فرض السيادة، ومصدر الإلهام الوطني. لكن ماذا يحدث حين تتحوّل هذه المؤسسة إلى عبء على الكيان الصهيوني، لا بسبب الهزيمة الخارجية فقط، بل بفعل الانهيار الداخلي الصامت؟ هذا ما تكشفه الحرب على غزة، حيث تتفكك البنية النفسية والعقائدية للجيش "الإسرائيلي"، أمام مرأى من القيادة السياسية، وربما برضاها الخفي.

تجنيد المعطوبين نفسيًا: كسر آخر للمحرّمات

عندما تبدأ "إسرائيل" في إرسال جنود مصابين بأمراض نفسية إلى ساحة المعركة، فإن ذلك لا يعكس فقط ضائقة في الموارد البشرية، بل انحدارًا في سلّم المعايير الأخلاقية والإدارية. "الجيش الإسرائيلي"، كما تكشف صحيفة "هآرتس"، استدعى مئات الجنود المصابين باضطرابات ما بعد الصدمة، بل حتى ذوي إعاقات عقلية، للقتال في غزة. ليس هذا خيارًا تكتيكيًا بقدر ما هو إقرار بفشل هيكلي: مؤسسة لم تعد قادرة على فرز مؤهليها، فتراهن على حافة الانهيار.

في هذا السياق، لا يكون القرار العسكري تقنيًا، بل أيديولوجيًا. فالمنطق الحاكم لهذا التجنيد هو: "أي جندي أفضل من لا جندي"، حتى لو أدى ذلك إلى انتحار البعض، أو إلى ارتكاب جرائم ضد المدنيين أو ضد الزملاء. في دولة ترفع شعار "أخلاقيّة السلاح"، يكشف هذا السلوك عن هشاشة القشرة الأخلاقية للمشروع الصهيوني برمته.

انتحارات صامتة ودفن بلا شرف

ما يُقلق أكثر ليس عدد المنتحرين – وهو 35 جنديًا حتى نهاية 2024 – بل كيفية التعامل معهم: دفن بلا مراسم عسكرية، صمت رسمي، تهميش في الإعلام. إن الدولة التي تفتخر بجنودها حين يموتون في المعركة، تختار التعتيم حين ينهارون تحت وطأة الصدمة. هذه ليست مجرد سياسة إدارية، بل بناء أيديولوجي لنظام لا يعترف بالفشل الذاتي، بل يختزله في "العدو".

الإحصاءات مرعبة للكيان: أكثر من 9 آلاف جندي أصيبوا بإعاقات نفسية منذ أكتوبر 2023، لينضموا إلى 26 ألفًا من حروب سابقة. لكن ما يغيب عن الخطاب العام هو سؤال مركزي: لماذا تتكرر هذه الإصابات بوتيرة متصاعدة؟ وهل السبب هو حجم العنف الذي يمارسه الجيش على المدنيين، أم التناقض العميق بين الأيديولوجيا العسكرية والواقع الميداني؟

"كابوس العودة": عندما يرفض الجنود القتال

رفض القتال لم يعد حادثة معزولة، بل تيار متصاعد داخل وحدات النخبة. جنود احتياط أعلنوا أنهم غير قادرين على العودة إلى غزة بعد 17 جولة من التوغل، مطالبين بالإعفاء. بعضهم تلقّى تهديدات بالسجن. هذا ليس تمرّدًا ضد القيادة فقط، بل ضد الفكرة الصهيونية ذاتها، التي تصوّر الجيش ككيان لا يُقهر، ومصدرًا للقداسة الوطنية.

ما يعبّر عنه الجنود، بصمتهم أو بتمردهم، هو تفكك العقد النفسي بين الفرد والمؤسسة. لقد أصبح "القتال من أجل البقاء" عبئًا لا يحتمل، لا سيما حين يكون البقاء نفسه خاليًا من المعنى السياسي أو الأخلاقي. الجنود يدركون أن العمليات لن تُحرر الأسرى، ولن تُسقط حماس، ولن تُعيد الهيبة. وهم يسألون: من أجل ماذا نموت؟ ومن أجل من؟

انقسام سياسي… واتهامات بالخذلان

داخل الكنيست، يتجلّى هذا الانهيار في شكل صراع بين "وزارة الدفاع والائتلاف الحكومي". محاولات فاشلة لتمرير قوانين التجنيد، معارضة من متدينين، وشكوك داخل لجنة الأمن والخارجية. لكن المثير أن بعض السياسيين بدأوا ينتقدون خطط الجيش علنًا، ويتهمونه بسوء التقدير. هذا ليس مجرد صراع إداري، بل خيانة متبادلة بين السلطة السياسية والعسكرية، يُراد لها أن تنفجر بعد الحرب، حين يبدأ البحث عن "كبش الفداء".

بيرغمان وهرئيل: ضياع الأهداف وتلاشي القيادة

رونين بيرغمان، أحد أبرز محللي الأمن في "إسرائيل"، يصف الوضع بأنه "مصيدة نفسية وسياسية". الجنود في الميدان بلا هدف، القيادة تُصوّر الدعم بينما تُعدّ الجيش للفشل. لا توجد استراتيجية خروج، ولا تصور للغد، بل مجرد بقاء ميداني لتمديد عمر الحكومة.

عاموس هرئيل يتحدث عن "فوضى متزايدة"، واقتراحات بمناورات لا تُنفّذ. هذه ليست فقط علامات ارتباك، بل دلالات على أن القرار العسكري بات رهينة الحسابات السياسية، وخصوصًا حسابات نتنياهو الذي يحتاج الحرب للبقاء، لكنه لا يجرؤ على الانتصار أو الانسحاب.

"عربات جدعون": بين الخيال الاستراتيجي والكارثة الإنسانية

العملية الجديدة، "عربات جدعون"، تأتي في ثلاث مراحل: القصف، التهجير، التوغل. لكن حتى الآن، لا نتائج تُذكر سوى مئات الشهداء الفلسطينيين، وانهيار كامل في البنية الصحية للقطاع. في المقابل، لا توجد مكاسب سياسية أو عسكرية. هذا يعني أن الجيش يُوظَّف كأداة قمع فقط، لا كذراع استراتيجية، ما يفاقم من الأزمة النفسية داخله.

الصوت من الداخل: "أين هو النصر"؟

ضباط احتياط عبّروا عن يأسهم بوضوح: "نعود إلى نفس المناطق كل مرة، بلا هدف، بلا حسم. نحتاج إلى وضوح، لا إلى شعارات". هذا الصوت الداخلي، الذي يتكثف عبر الإعلام العبري البديل، يعكس تآكل العقيدة العسكرية، وتحول الجيش من قوة ردع إلى آلة استنزاف.

جيش ينهار في صمت… بينما تُدار الدولة بخطاب القوة

في جوهرها، الحرب على غزة باتت فضيحة مزدوجة: فضيحة أخلاقية في التعامل مع المدنيين، وفضيحة وجودية في انهيار جيش يُفترض أنه "الأكثر تطورًا في الشرق الأوسط". ومع كل جندي ينهار نفسيًا، يتداعى جزء من السردية الصهيونية عن الانضباط، التماسك، والقدرة على الصمود.

هذا ليس تفصيلًا عرضيًا. إنه تحوّل تاريخي. فحين تفقد المؤسسة العسكرية قدرتها على حماية ذاتها من الداخل، لا تعود ساحة القتال الخارجية هي الأخطر. بل العيادات النفسية، غرف الانتحار، وممرات الانشقاق… هناك، في الجبهة الصامتة، تُحسم الحروب.

هل تستطيع "إسرائيل" أن تنتصر على غزة، بينما جيشها يموت بصمت من الداخل؟


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور