في عالم تتساوى فيه القوة بالعُرف، وتُقايَد فيه الجرائم بالإفلات، لا يكون السلوك "الإسرائيلي" في غزة استثناءً، بل تجسيدًا حرفيًا للعقيدة الإمبريالية التي يُدير بها الغرب شؤون الكوكب. وبعد فشل "عربات جدعون"، لم تعد "إسرائيل" تحاول الانتصار، بل تبحث عن مخرجٍ مشرّف للهزيمة، تسوّقه للعالم بوصفه "تحوّلًا استراتيجيًا" أو "إعادة تموضع".
لكن ما يجري في العمق، هو اعترافٌ صريح – وإن لم يُعلن – أن المشروع "الإسرائيلي" العسكري في غزة وصل إلى سقفه، وأن المقاومة نجحت في إعادة تعريف الصراع من "معركة بين جيش نظامي وجيش غير نظامي" إلى "صراع وجودي بين شعب محاصر وإمبراطورية مسلحة حتى الأسنان".
البدائل الكارثية: استراتيجية الإبادة المقنّعة
تحدثت هيئة البث "الإسرائيلية" مؤخرًا عن "بدائل أمنية" قيد الدراسة، منها ما وُصف صراحةً بـ"البديل المتطرف": فرض حصار كامل على السكان ومنع دخول الطعام والماء، حتى عبر الإسقاط الجوي. هذا التصريح – الذي مرّ دون ضجيج غربي يُذكر – ليس سوى إعلان نوايا بإعادة تعريف الإبادة الجماعية بوصفها "تكتيكًا أمنيًا".
والأدهى أن هذه الخطط تُقدّم على أنها "تمييز بين المدنيين والمسلحين"، وكأن تجويع الأطفال عمل إنساني يُقرّبنا من العدالة! في المنطق "الإسرائيلي" المدعوم من واشنطن، أصبح منع الغذاء وسيلة للتفاوض، والضغط على السكان أداة للحصول على "صفقة"، وتُترجم هذه السياسات بوقاحة إلى مصطلحات تكنوقراطية كـ"التحكم بالأمن"، و"إعادة الانتشار".
لا شيء في هذا جديد. فقد رأينا ذلك في العراق بعد 1991، حيث مات أكثر من نصف مليون طفل تحت الحصار الأميركي البريطاني، واعتُبر ذلك "ثمنًا مقبولًا"، وفقًا لتصريحات مادلين أولبرايت الشهيرة. واليوم، تسير "إسرائيل" في الطريق ذاته: تجويع السكان، تهجيرهم قسريًا جنوبًا، ثم مكافأتهم بـ"مساعدات" إن خرجوا من مناطق الحصار – وكأننا في معسكر اعتقال نازي، لا في مدينة مأهولة تُطالب بالحرية.
الهدف الحقيقي: تهجير، لا أمن
وراء كل هذا الخطاب الأمني تكمن استراتيجية أعمق، وأكثر تجذرًا في العقل الاستعماري "الإسرائيلي": إفراغ غزة. ليس فقط من حماس أو السلاح، بل من سكانها. فالخطة التي تتبلور – وفق تقارير القنوات "الإسرائيلية" – تسعى لفرض واقع يُجبر السكان على الانتقال جنوبًا، كي يتم "تطهير" المناطق من المقاومة. وبالطبع، لن يُسمح لهم بالعودة.
ما يُراد، عمليًا، هو تكرار نكبة 1948 بأسلوب أكثر تكنولوجيا وأقل مباشرة. التهجير لا يجري بالقوة فقط، بل عبر الحصار، المجاعة، والقتل اليومي الذي يُفقد السكان أي أمل في البقاء. ثم تأتي المساعدات الغربية، لا لرفع المعاناة، بل لضمان ألا ينفجر السكان في وجه المُهجِّر، بل يهاجروا بهدوء، ويتركوا الأرض "للاستخدام الأمني".
صراع داخل المؤسسة الصهيونية: من يُدير الهزيمة؟
تُظهر الوثائق المسرّبة من المجلس الوزاري المصغر في "إسرائيل" أن الجيش نفسه لم يعد يؤمن بأهداف الحرب. رئيس الأركان إيال زامير قال صراحة إن الأهداف "متضاربة"، وطالب بموقف سياسي واضح. هذا تصريح غير مسبوق، ويدلّ على شروخ حقيقية داخل المنظومة الصهيونية: بين من يُريد الحرب، ومن يخشى عواقبها.
وهو أمر طبيعي. فعندما تُدفع جيوش بأكملها لاحتلال أراضٍ صغيرة دون تحقيق نتائج، تبدأ الحسابات بالتغيّر. هل ستبقى "إسرائيل" في غزة عامًا؟ خمسة؟ عشرة؟ ماذا عن الخسائر البشرية؟ ماذا عن المقاومة التي تنمو كل يوم، في ظل عجز واضح عن القضاء عليها؟
ومن المثير للاهتمام أن نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، يُريد في المقابل أن يذهب أبعد. التلويح بضم أراضٍ من غزة، أو فرض حكم عسكري كامل، لا يُشير إلى "حسم" بقدر ما يُشير إلى رغبة في استباق أي حلّ سياسي، عبر فرض واقع جديد يُعقّد أي تسوية لاحقة.
الدعم الأميركي: إذن بالإبادة
لا يمكن فهم ما يجري دون النظر إلى السياق الدولي. الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، لا تُقدّم فقط السلاح والدعم السياسي، بل تُعطي ما هو أخطر: الضوء الأخضر للقتل الجماعي.
التقارير الأميركية، التي تسربت مؤخرًا، تُشير إلى دعم غير مشروط "لإسرائيل"، بما في ذلك تمرير عمليات برية جديدة، وعمليات تهجير، وحتى إعادة هيكلة غزة إدارياً. كل هذا، طبعًا، باسم "الأمن"، و"مكافحة الإرهاب"، وكأن مئات آلاف المدنيين في غزة لا يملكون الحق في الحياة لأنهم "يريدون الحرية والعيش في كامل أراضيهم المحتلة".
وهكذا، تتحول المجازر اليومية إلى "عمليات تطهير أمني"، وتُصبح آليات الحصار وقطع المياه أدوات مشروعة في القانون الدولي المعدّل على مقاس "إسرائيل".
الضفة الغربية كـ"نموذج فاشل": وهم السيطرة الكاملة
طرح وزير الدفاع "الإسرائيلي" يسرائيل كاتس ما أسماه "نموذج الضفة الغربية" كحلّ لغزة: أي بقاء "الجيش الإسرائيلي"، وفرض سيطرة أمنية مطلقة. لكن هذا الطرح يفضح – لا يُعالج – المأزق.
فالضفة، رغم كل الحواجز والاقتحامات والتنسيق الأمني، لا تزال مصدر صداع دائم "لإسرائيل". وهي تُدار فقط بفضل وجود سلطة فلسطينية فاقدة للشرعية السياسية. فكيف لغزة، التي لم تقبل يومًا بالاحتلال، ولا توجد فيها سلطة متعاونة، أن تُدار بالنموذج ذاته؟
الجواب بسيط: لا يمكن. والسيطرة على غزة، كما قال ضباط وجنود إسرائيلين، ستكون "باهظة الكلفة"، خصوصًا في المناطق الوسطى التي لم تدخلها "إسرائيل" سابقًا. فهناك، تُجهّز المقاومة لحرب عصابات طويلة الأمد، تجعل الاحتلال مستحيلًا حتى لو أُعلن رسميًا.
نحو حرب استنزاف لا نهاية لها؟
ما نراه اليوم هو تحوّل في طبيعة الحرب: من محاولة نصر سريع، إلى حرب استنزاف طويلة، تُراهن فيها "إسرائيل" على الزمن، بينما تراهن المقاومة على الإرادة. "إسرائيل" تملك المدرعات، والطائرات، والدعم الأميركي؛ لكن المقاومة تملك ما لا تستطيع "إسرائيل" فهمه أو هزيمته: الإيمان بالحق، والتجذر في الأرض، واستعداد لا محدود للتضحية.
ومن هذا التناقض، ينبثق المأزق التاريخي الذي يواجهه المشروع الصهيوني: فهو لا يستطيع أن يتعايش مع المقاومة، ولا يستطيع القضاء عليها. ومن ثم، يعيش في حلقة جهنمية: كلما صعّد، ازدادت المقاومة صلابة. وكلما انسحب، خسر معنويًا. وكلما فاوض، بدا ضعيفًا. وكلما قتل، كسب العزلة الدولية.
النتيجة: مشروع بلا أفق، إلا العنف
فشل "عربات جدعون"، ثم الحديث عن بدائل "أكثر تطرفًا"، يُظهر أن المشروع "الإسرائيلي" فقد بوصلته. لم يعد يملك هدفًا سياسيًا حقيقيًا، بل بات محكومًا بمنطق القوة لأجل القوة. وهذه علامة واضحة على تحوّل المشروع الصهيوني من "حلم قومي" – كما يدّعون – إلى كابوس استعماري دائم، لا يملك إلا القتل وسيلةً للحياة.
وهنا يكمن الدرس الحقيقي: حين تفقد المشاريع الاستعمارية القدرة على التجدد السياسي، تتحوّل إلى أدوات قمع عمياء، تتحرك بالقصور الذاتي، وتُنتج فقط الموت.
لا سلام دون عدالة
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد صراع سياسي، بل معركة على طبيعة النظام العالمي ذاته. إما أن تكون هناك قيمة حقيقية لحقوق الإنسان، أو لا. إما أن يُحاسب القتلة، أو يستمروا في القتل. إما أن تتحرر الشعوب، أو تُقهر إلى الأبد.
وحتى ذلك الحين، ستظل "إسرائيل" تحاصر، تُجوع، وتقتل… لكنها لن تنتصر.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]