في العالم الذي تحكمه القوة لا القانون، وتُصاغ السياسة الدولية بمنطق العقاب لا العدالة، تمثل المفاوضات حول غزة نموذجًا مثاليًا لتحليل البنية الإمبريالية التي تحكم العلاقات بين الضحية والجلاد. هنا لا يتعلق الأمر بتفاصيل تقنية تتعلّق بنقاط التفاوض أو خطوط الانسحاب، بل بكيفية إنتاج السلطة عبر المفاوضات، وتوظيفها كأداة لإدامة السيطرة وتكريس الهيمنة.
فحين أعلنت وزارة الخارجية القطرية في 25 تموز/يوليو، بلغة دبلوماسية ناعمة، أن المفاوضات شهدت "تقدّماً"، وأن التسريبات الإعلامية لا تعكس واقع المحادثات، كانت في الواقع تشير إلى واقع مزدوج: واقع تفاوضي إيجابي تحاول حماس تثبيته عبر الوسطاء، وواقع سياسي عدواني تقوده "إسرائيل" وواشنطن لإفشال أي اتفاق لا يخدم أهداف التهجير والإخضاع.
التفاوض بوصفه امتدادًا للعدوان
منذ بدأت المفاوضات، اتّخذت "إسرائيل" منها أداة من أدوات الحرب. فهي لا تفاوض للوصول إلى اتفاق، بل لتثبيت رؤيتها: السيطرة الأمنية على مناطق واسعة من القطاع، إنشاء "مناطق عازلة" عسكرية تُفرغ القطاع من سكانه، ونقل مئات الآلاف إلى ما يُسمّى "مدنًا إنسانية"، وهي في الحقيقة معسكرات قتل واعتقال جماعية بغطاء إنساني، على مشارف رفح.
هنا تكمن الوظيفة الحقيقية للمفاوضات في المنظور "الإسرائيلي": ليس الوصول إلى تسوية، بل انتزاع قبول فلسطيني رسمي ومُوقّع بخريطة جديدة للنكبة. من هذا المنطلق، لم يكن رد حركة حماس "الإيجابي" - كما وصفه الوسطاء - عاملًا مطمئنًا لتل أبيب، بل كان إنذارًا بأن مشروعها لن يُمرّر بسهولة.
إن موافقة حماس، وفقًا لما نقله الوسيط بشارة بحبح، على خرائط انسحاب تُقلّص المناطق العازلة وتُعيد السكان إلى منازلهم، تعني عمليًا إفشال المخطط "الإسرائيلي" للتهجير. ولذلك جاء الانقلاب "الإسرائيلي" على المفاوضات، بدعم أميركي سافر، وتحوّلت "ردود الفعل" إلى حملة شيطنة إعلامية ضد حماس، متّهمةً إياها بالتصلّب ورفض السلام.
واشنطن: الشريك في الجريمة
إذا كان دور واشنطن يُقدَّم بوصفه "وسيطًا نزيهًا"، فإن السلوك السياسي الحقيقي يكشف عكس ذلك. المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، ثم الرئيس ترامب نفسه، أعلنا أن حماس "لا تريد الاتفاق"، وهي عبارة مشحونة بخلفية استعمارية عريقة: اتهام الضحية بالعدوان، والمقاومة بالإرهاب، والمظلوم بعرقلة الحلول.
لكن السؤال الأهم: لماذا هذا الانقلاب الأميركي؟ ولماذا الآن؟
إن تراجع "إسرائيل" عن الاتفاق، رغم اعترافها - عبر وسطاءها - بإمكانية البناء على رد حماس، لا يمكن فصله عن الهزيمة السياسية والعسكرية "الإسرائيلية" المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لقد فشلت "إسرائيل" في كسر المقاومة عسكريًا، وهي تحاول الآن إعادة تعريف الانتصار عبر مفاوضات تفضي إلى نتائج تُشبه ما لم تستطع تحقيقه بالنار: اقتلاع الفلسطيني من أرضه.
واشنطن، التي ترى في "أمن إسرائيل" قاعدة استراتيجية في الشرق الأوسط، تعتبر بقاء الفلسطينيين في أرضهم تهديدًا طويل الأمد لمنظومة الهيمنة الغربية. ومن هنا فإن الضغوط الأميركية على حماس ليست لتوقيع اتفاق، بل لتوقيع هزيمة.
السياسة كمجرد تغطية للجريمة
بينما تحرص "إسرائيل" على تصوير المفاوضات كعملية تقنية تُعالج "خلافات معقولة"، فإن الوقائع الميدانية تكشف العكس تمامًا. في الوقت الذي انسحب فيه الوفد "الإسرائيلي" من الدوحة، استمر الجيش في قصف غزة وتجويع سكانها. القصف لم يكن مجرد ضغط تفاوضي، بل استراتيجية عسكرية لإنهاك الخصم قبل إدخاله في اتفاق مُذلّ.
وبحسب تقارير اليونيسيف وبرنامج الغذاء العالمي، فإن المجاعة في غزة تجاوزت حدود الكارثة: مئات الأطفال يموتون ببطء، والبنية الصحية انهارت، والمساعدات تُستخدم كسلاح سياسي بيد مؤسسة "إسرائيلية أميركية" تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية"، والتي تحوّلت مراكز توزيعها إلى مصائد موت.
فكيف يمكن التفاوض في ظلّ التجويع؟ تسأل حماس.
والجواب واضح: "إسرائيل" لا تريد مفاوضات، بل استسلامًا تحت القصف والجوع.
الإعلام كشريك في الحرب
في كل مرة تقترب فيها المفاوضات من اتفاق، تبدأ ماكينة إعلامية أميركية وإسرائيلية ضخمة باتهام حماس بالرفض أو بالتعنت. هذا ليس خطأ بريئًا في التقدير، بل بروباغندا منظمة تهدف إلى:
- تضليل الرأي العام الدولي، وإقناعه بأن إسرائيل "تحاول" وحماس "تُفشل".
- تبرير استمرار الحرب رغم اكتمال شروط وقفها.
- شيطنة المقاومة وإنتاج صورة الفلسطيني كمن يفضل الموت على التسوية.
الإعلام هنا ليس مرآة، بل أداة حرب.
جوهر الانقلاب: فشل الاحتلال في كسر الإرادة
لكن لماذا ينقلب الاحتلال على المفاوضات إذا كانت إيجابية؟ ببساطة، لأن الرد الفلسطيني لم يتضمن استسلامًا. ففي نظر الاحتلال، أي اتفاق لا يُفضي إلى تهجير 700 ألف فلسطيني، ولا يمنح "إسرائيل" السيطرة على مساحات واسعة في غزة، لا يستحق أن يُسمّى "سلامًا".
ما تريده "إسرائيل" هو هندسة الخريطة الديموغرافية لغزة عبر مفاوضات تُضفي الشرعية على مخطط التهجير. وما ترفضه حماس وفصائل المقاومة هو بالضبط هذه "الهندسة الجيوسياسية الناعمة"، والتي تأتي مغطاة بلغة "المساعدات الإنسانية" و"وقف إطلاق النار".
الانهيار "الإسرائيلي" في ميزان القوة الرمزية
لعلّ أهم ما تكشفه هذه الجولة من المفاوضات هو فشل "إسرائيل" في إدارة سردية الانتصار. فعلى الرغم من امتلاكها آلة عسكرية ساحقة ودعمًا غربيًا لا مثيل له، تجد نفسها أمام مقاومة أعادت تعريف القوة: الصمود السياسي رغم الإبادة، والتمسّك بالحقوق رغم الجوع، والقدرة على التفاوض بندّية رغم الحصار الكامل.
وهذا بحد ذاته مأزق "إسرائيل" الكبرى: أن تفشل في كسر إرادة شعب محاصر، منهوك، يواجه إبادة جماعية ممنهجة، لكنه لا يزال يقول لا.
السيناريوهات المقبلة: العودة للهاوية أم اتفاق بلا إذلال؟
أمام هذا المشهد، تملك "إسرائيل" خيارين لا ثالث لهما:
- إما العودة للمفاوضات بشروط لا تتضمن تهجيرًا جماعيًا، وهو ما يعني نهاية عدوان غزة وتفكيك المشروع الإسرائيلي لإعادة تشكيل القطاع.
- أو مواصلة الحرب الكارثية التي لن تحقق نصرًا، بل ستُعمّق عزلتها الدولية، وتُغرق جيشها في مستنقع دماء ومدن مدمّرة.
لكن الأهم من ذلك أن "إسرائيل" تدرك أن استمرار هذا العدوان لن يحسم الحرب، بل سيُبقيها مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها الانهيار الداخلي في صفوف الجيش والمجتمع "الإسرائيلي"، كما حدث مؤخرًا في تقارير الانتحار الجماعي في صفوف الجنود.
مفاوضات في ظل الإبادة
المفاوضات ليست سوى مرآة تعكس جوهر النظام الدولي: نظام يُعاقب الضحية، ويُكافئ الجلاد، ويطلب ممن يُباد أن "يكون مرنًا" و"واقعيًا" و"براغماتيًا". هذا هو جوهر العقل الاستعماري الذي ما زال يحكم الشرق الأوسط تحت رايات جديدة وبلغة إنسانية زائفة.
لكن ما يُربك هذا العقل الاستعماري، ويفجّر توازنه الرمزي، هو إصرار الفلسطينيين على البقاء. هو أن الضحية لم تمُت بعد، ولم تصمت بعد، ولم توقّع على وثيقة استسلامها.
وفي لحظة كهذه، تنقلب "إسرائيل" وأميركا على المفاوضات، لا لأن حماس تعنّتت، بل لأنها رفضت الموت السياسي، كما رفضت الموت المادي.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]