يستعرض هذا المقال الذي نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" وترجمه موقع الخنادق الالكتروني، تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطر، وأن وعود الحكام العرب في الخليج – السعودية وقطر والإمارات - بإنفاق المليارات النفطية لدعم سياسة ترامب "الاستثمار في أميركا" لم تكن كافية لتغيير موقفه تجاه إسرائيل. وأنهم كغيرهم حول العالم، يحذرون من الضغط أكثر على الرئيس الأمريكي خوفاً من استفزازه وهو الرئيس الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. كما استعرض المقال تداعيات تحقيق نتنياهو وحكومته لإسرائيل الكبرى على الرئيس ترامب.
النص المترجم:
لا بد أن القطريين في حيرة. قدّموا لدونالد ترامب طائرة بوينغ فاخرة، واستضافوا أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، وتعهدوا باستثمارات بقيمة 500 مليار دولار في الولايات المتحدة، ولعبوا دور الوسيط الشامل بالنيابة عن واشنطن – بما في ذلك ملف رهائن حماس. ومع ذلك، لم يتمكن ترامب هذا الأسبوع، على ما يبدو، من منع إسرائيل من شن هجوم صاروخي على عاصمتهم. مع أصدقاء كهؤلاء، من يحتاج إلى أعداء؟
سواء علم ترامب مسبقاً بضربات إسرائيل على الدوحة – والأدلة تشير إلى أنه على الأرجح كان يعلم – فالنتيجة واحدة: لا أحد يعتقد أنه يمارس أي سيطرة على بنيامين نتنياهو. من هذه الناحية، لا يختلف ترامب كثيراً عن جو بايدن. فالرؤساء الأميركيون المتعاقبون تحولوا إلى طين طيّع بين يدي رئيس الوزراء الإسرائيلي. هل هناك ما لا يستطيع نتنياهو فعله؟ كان ذلك سؤالاً بلاغياً.
الخطوة التالية لنتنياهو هي تفريغ قطاع غزة، يليها على الأرجح ضم شبه كامل للضفة الغربية. من يظن أنني أبالغ فعليه أن يراقب أفعال نتنياهو لا أقواله، فالأخيرة أثبتت أنها بلا قيمة. نتنياهو في منتصف مرحلة ما قبل النهاية، حيث يسعى إلى حشر مليوني فلسطيني في غزة داخل "مدينة إنسانية" على الحدود مع مصر. ضربته لقطر كانت في جوهرها استهدافاً لما تبقى من محادثات وقف إطلاق النار، ما يقدّم دليلاً إضافياً – وكأنه كان ينقصنا دليل – على أنه غير مبال بمصير الرهائن الإسرائيليين الباقين. الشيء الوحيد الذي يهتم به نتنياهو هو بقاؤه السياسي. وذلك يعني الحفاظ على دعم شركائه اليمينيين المتطرفين القوميين، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. أهدافهم من "من النهر إلى البحر" هي بالتالي أهدافه.
كون هذا التطهير العرقي الواسع لا يحظى بتأييد معظم الإسرائيليين، هو أمر غير ذي صلة. ولمن يريد وصفاً إنسانياً وعاقلاً لما هو على المحك، أنصحه بقراءة مقال فانيا أوز-سالزبرغر الأخير في "فايننشال تايمز ويكند". إنه من أفضل ما قرأت. المدافعون عن إستراتيجية نتنياهو القائمة على تحويل غزة إلى ركام يقولون إن هذا بالضبط ما فعله الحلفاء في هامبورغ وطوكيو ومدن أخرى للمحور خلال الحرب العالمية الثانية. وهم محقون: فقد كان القصف الأميركي والبريطاني عشوائياً وقتل عشرات الآلاف من المدنيين الألمان واليابانيين. لكن فعاليته كانت موضع شك كبير. بعض الباحثين يرون أن قصف المدن الألمانية بالنابالم زاد من عزيمة المدنيين على اتباع هتلر. في المقابل، لا خلاف كبير على أن قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية عجّل باستسلام اليابان.
لكن هنا تنهار المقارنة مع الحرب العالمية الثانية. كما يشير نيك كوهين في مقاله الممتاز في "جويش كرونيكل"، كان لدى الحلفاء خطة "اليوم التالي" بعد النصر: الاستثمار في بناء ديمقراطيات ألمانية ويابانية ذات سيادة. وهذا ليس، بلطف القول، ما يخطط له نتنياهو في غزة أو الضفة الغربية. سواء كان يخطط لطرد سكان غزة إلى مصر أو إلى أماكن أخرى، أو لحشرهم في مخيمات دائمة، فإن هدفه ليس تحقيق السلام ولا حتى فرضه. علينا أن نبني كل توقعاتنا على هذه الحقيقة الجوهرية.
بالنسبة لترامب، يطرح هذا معضلة متصاعدة. العام الماضي منحت الولايات المتحدة إسرائيل 12.6 مليار دولار كمساعدات عسكرية – أي أكثر بكثير من 3.8 مليارات سنوياً التي تتلقاها عادة. فاتورة "تطهير" غزة وتمويل مخيماتها ستكون أعلى بكثير. لقد سخر ترامب من العالم بفيديوهات أنشأها عبر الذكاء الاصطناعي، يصوّر فيها غزة وكأنها ريفييرا الشرق الأوسط. لكنه حتى هو يدرك أن تكلفة مثل هذا الوهم ستكون باهظة جداً. كثيراً ما تباهى ترامب بأن اتفاقات أبراهام هي من أعظم إنجازاته. غير أن تطهير نتنياهو العرقي سيعرض للخطر اعتراف الإمارات (وغيرها) بإسرائيل، وينسف أي أمل متبقٍّ في تطبيع سعودي.
ومع تقدّم "مرحلة ما قبل النهاية" لنتنياهو، يُرجح أن تحذو بريطانيا وكندا ودول أخرى حذو فرنسا في الاعتراف بدولة فلسطين – ربما خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المرتقب. كما يُتوقع أن يوسع الغرب نطاق عقوباته لتشمل ما هو أبعد من الشخصيات الهامشية في ائتلاف نتنياهو. ومع ازدياد عزلة إسرائيل، ستكون غريزة ترامب هي الوقوف خلف نتنياهو. لكن ذلك سيتعارض مع غريزة أخرى لديه: تجنب تمويل حروب خارجية بلا نهاية. ومع اقتراب الذكرى الثانية لهجوم 7 أكتوبر، ستشتد الأزمة أكثر فأكثر.
أتوجّه بسؤالي هذا الأسبوع إلى زميلي الموثوق أندرو إنغلاند، محرر شؤون الشرق الأوسط في "فايننشال تايمز": أندرو، إذا لم تجد الحكمة والرحمة آذاناً صاغية، فهل يمكن للمال أن يقنع ترامب؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه السعوديون في إقناع ترامب بكبح جماح نتنياهو؟
رد أندرو إنغلاند
شكراً إد. كما قلت، كانت الضربات الإسرائيلية ضد حماس في قطر استثنائية، حتى بمقاييس العامين الماضيين من الصراع الشرق أوسطي المتواصل، إدانة صادمة لمدى انفلات حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة. وليس مفاجئاً أن الهجوم أثار غضب وقلق حلفاء واشنطن في الخليج، بمن فيهم السعودية، القوة السنية الأبرز في المنطقة.
وهذا يقودني إلى سؤالك عن الدور الذي يمكن – أو لا يمكن – للمملكة أن تلعبه في إقناع ترامب بكبح نتنياهو. للإنصاف، فإن ولي العهد محمد بن سلمان، القائد الفعلي للسعودية، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب إبادة في غزة، حاول عبر دبلوماسية هادئة. لكن الأدلة تخبرنا أن جهوده وجهود قادة عرب آخرين لم تثمر شيئاً يذكر.
بعد إعادة انتخاب ترامب، تفاجأت قليلاً بأن المسؤولين العرب كانوا يأملون بحذر أن يغيّر "صانع الصفقات" المعلن موقفه من حرب إسرائيل ضد حماس في غزة. جزئياً كان ذلك انعكاساً لإحباط عميق من فشل جو بايدن في استخدام نفوذ واشنطن بما يكفي للضغط على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق مع حماس ينهي الحرب ويحرر الرهائن. التفكير كان: هل يمكن أن يكون ترامب أسوأ حقاً؟
في تشرين الثاني / نوفمبر كتبت تحليلاً عن كيف كانت الدول العربية تتطلع إلى محمد بن سلمان ليستثمر علاقته الشخصية مع ترامب وثقل السعودية في التأثير على سياسات الإدارة الأميركية المقبلة في الشرق الأوسط، ويكون بمثابة ثقل موازن لنتنياهو. فترامب دخل البيت الأبيض أصلاً واعداً بجلب السلام إلى الشرق الأوسط، وقد ساعد فريقه في التوصل إلى هدنة في غزة واتفاق تبادل رهائن قبيل تنصيبه في كانون الثاني / يناير. كان هناك أيضاً بعض الأمل – ربما بدافع اليأس – بأن الرئيس المتقلب قد يكون هو الشخص الذي يقف في وجه نتنياهو رغم انحيازه الواضح لإسرائيل. لكن منذ ذلك الحين تدهورت الأمور، إذ أعطى ترامب إسرائيل ضوءاً أخضر لتفعل ما تشاء في غزة.
في شباط / فبراير كشف ترامب عن خطته لـ"إفراغ" غزة من الفلسطينيين – وهي فكرة مرفوضة لدى السعودية وغيرها من الدول العربية – وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". وفي الشهر التالي، لزم الصمت بينما كسر نتنياهو وقف إطلاق النار، وفرض حصاراً كاملاً على غزة، ووسع الهجوم الإسرائيلي داخلها.
يمكن لابن سلمان أن يزعم تحقيق نجاح في أيار / مايو حين شجع ترامب على لقاء أحمد الشرع، الرئيس السوري الجديد، في الرياض، وأقنعه مع تركيا برفع العقوبات الأميركية عن دولته المنهكة بالحرب. جاء ذلك خلال جولة ترامب الخليجية التي شملت 3 دول، حيث أغدق عليه ابن سلمان وقادة قطر والإمارات بالاحتفاء ووعدوا باستثمارات تفوق تريليون دولار في الولايات المتحدة. لكن بعيداً عن البهرجة، ضغطوا عليه أيضاً في ملف غزة، وحثوه على منع نتنياهو من مهاجمة إيران.
وماذا كانت النتيجة؟ في غضون أسابيع، كانت إسرائيل تقصف الجمهورية الإسلامية، مع مشاركة أميركية وجيزة. وتواصل إسرائيل، لخيبة أمل الدول العربية، شن ضربات في سوريا، فيما يدعم العرب الحكومة الضعيفة هناك على أمل استقرار جارهم بعد نحو 14 عاماً من الحرب الأهلية.
كل هذا يشير إلى أن حتى وعود تدفق المليارات النفطية لدعم سياسة ترامب "الاستثمار في أميركا" لم تكن كافية لتغيير موقفه تجاه إسرائيل. وكغيرهم حول العالم، يحذر القادة العرب من الضغط أكثر من اللازم خوفاً من استفزاز رئيس لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. والسؤال الآن هو: هل ستؤدي ضربات إسرائيل على الدوحة إلى تصلّب المواقف العربية وبلورة رد جماعي أقوى على أفعال إسرائيل؟ من المبكر القول.
المفارقة في كل ذلك أن عجز ترامب – أو عدم رغبته – في كبح نتنياهو وإنهاء الحرب في غزة، أطاح بالفرصة الضئيلة لإبرام الصفقة التي يريدها أكثر من أي شيء آخر: اعتراف السعودية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها.
المصدر: فايننشال تايمز - Financial Times
الكاتب: غرفة التحرير