أثار ظهور جنودٍ أميركيين في شوارع كريات غات، المدينة الواقعة شمال شرق قطاع غزة، دهشة السكان، قبل أن يُكشف لاحقاً عن إنشاء مركز أميركي جديد هناك باسم مركز التنسيق المدني – العسكري (CMCC)، الذي أعلن عنه نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025. يشكّل هذا المركز غرفة عمليات متعددة الجنسيات تُشرف عليها الولايات المتحدة، وتُعدّ ركيزةً لتنفيذ خطة السلام التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بهدف تثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإدارة المرحلة التالية للحرب.
ماهية المركز وتركيبته
أُقيم المركز في منطقة صناعية بمدينة كريات غات، داخل مجمع لوجستي واسع أُعِدّ خلال أسبوعين فقط. يتكوّن من ثلاثة طوابق مخصّصة للجانب الإسرائيلي، والأميركي، وطابق مشترك للتنسيق. يضمّ نحو مئتي عنصر من القوات الأميركية في مجالات النقل، والأمن، والهندسة، واللوجستيات، بإشراف اللواء باتريك فرانك من القيادة البرية الأميركية (ARCENT). كما يشارك ضابط بريطاني، واللواء الإسرائيلي يكي دولف ممثلاً للجيش الإسرائيلي، إضافة إلى عناصر من الأردن، والإمارات، وبريطانيا، والدنمارك، وألمانيا، مع توقع انضمام دول أخرى لاحقاً.
رُفعت في المؤتمر التأسيسي أعلام الولايات المتحدة وإسرائيل والدول المشاركة، باستثناء علم الإمارات الذي غاب "لأسباب رمزية"، وفق يديعوت أحرونوت. كما ظهرت لافتات تحمل عبارة "خطة النقاط العشرين لترامب"، في إشارة إلى الإطار السياسي الجديد للسلام. جُهّز المركز بتقنيات مراقبة واستطلاع متقدّمة تمكّنه من متابعة الوضع في غزة بشكل لحظي، ويخضع لحراسة مشددة وسرية تامة، إذ مُنع التصوير والإعلاميون من الاقتراب من الموقع.
الأهداف والوظائف
يُعدّ المركز الأميركي اليوم القلب النابض للعمليات الأميركية المتعلّقة بقطاع غزة، إذ يهدف إلى تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وتنسيق جهود الدول والمنظمات المشاركة في إعادة الإعمار وإدارة الشؤون المدنية والأمنية. بحسب قائد القيادة المركزية الأميركية براد كوبر، يسعى المركز إلى "جمع الجهات الفاعلة التي تشترك في هدف تحقيق الاستقرار في غزة تمهيداً لانتقال سلمي"، مشيراً إلى انضمام منظمات غير حكومية ومؤسسات دولية وشركات خاصة إلى هيكليته.
ويرى محللون إسرائيليون أن الهدف العملي من المركز هو فرض إدارة أميركية مباشرة للمشهد الميداني والسياسي في غزة، ما يتيح لواشنطن التحكم بمسار الأحداث وضبط سلوك الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية على السواء.
جدل السيادة في إسرائيل
إقامة هذا المركز فجّرت نقاشاً واسعاً في إسرائيل حول مدى استقلال القرار الوطني في ظل الوجود الأميركي المتزايد. فقد اتهم زعيم المعارضة يائير لبيد رئيس الحكومة نتنياهو بأنه "حوّل إسرائيل إلى دولة تابعة"، بينما قال وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إن على ترامب أن "يتذكّر أن إسرائيل دولة ذات سيادة".
على المستوى العسكري، أبدت المؤسسة الإسرائيلية تحفظات على طبيعة الصلاحيات المشتركة، معتبرة أن أي عملية في غزة باتت تتطلّب موافقة المركز الأميركي، ما يقيّد حرية العمل الميداني للجيش. ووصفت يديعوت أحرونوت هذا التحوّل بأنه انتقال واشنطن من دور "الوسيط" إلى "الوصيّ"، فيما شبّه مراقبون العلاقة الجديدة بنظام "البيبي سيتر" الذي يراقب أداء نتنياهو عن كثب ويمنعه من الخروج عن السياسة الأميركية.
المشاركة الدولية وتحدياتها
رغم الحديث عن "قوة تثبيت دولية" في غزة، لم تتضح بعد ملامحها ولا الدول المشاركة فعلياً. فباستثناء استعداد إندونيسيا لإرسال عشرين ألف جندي، تواجه واشنطن صعوبات في إقناع دول أخرى بالانضمام، وفق نيويورك تايمز. أما تركيا فهي الدولة الوحيدة التي أعلنت حماستها للمشاركة، ما أثار قلقاً كبيراً في تل أبيب.
وأكد نائب الرئيس الأميركي فانس أن بلاده "لن تفرض وجود قوات أجنبية على إسرائيل من دون موافقتها"، لكنه شدد على أهمية الدور التركي "البنّاء" في ترتيبات ما بعد الحرب، وإن لم يكن عسكرياً.
خلاصة
يعبّر إنشاء مركز التنسيق المدني – العسكري في كريات غات عن تحوّل نوعي في الدور الأميركي داخل إسرائيل وغزة، من الدعم غير المباشر إلى إدارة ميدانية وسياسية شبه مباشرة. وبينما تراه واشنطن أداةً لتثبيت السلام وإعادة الإعمار، يعتبره منتقدون في إسرائيل مسّاً بالسيادة وتحولاً في طبيعة التحالف بين الجانبين. ومع اتساع المشاركة الدولية المحتملة، يبدو أن المركز سيشكّل البنية التحتية الأساسية لإدارة مرحلة "ما بعد الحرب" في غزة، تحت إشراف أميركي محكم.
الكاتب: غرفة التحرير