برز في الآونة الأخيرة – خلال معركة طوفان الأقصى - مجال استخباراتي جديد، بات الكيان المؤقت الإسرائيلي والعديد من الأطراف الدولية يستخدمونه، في إطار المواجهة مع محور المقاومة في العديد من ساحاته. وهذا المجال معروف باصطلاح الاستخبارات القائمة على القياس والتوقيعات (MASINT)، الذي بات ركيزة عمل القسم الجديد التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية – أمان والذي يعمل تحت إشراف قسم الأبحاث والاستخبارات العملياتية ويُعرف باسم "مركز منع إعادة التأهيل". ويمثّل هذا المركز وفق الرواية الاسرائيلية نقطة تحول في إدارة الصراع مع حزب الله وإيران، من استراتيجية "الردع عبر العقاب" إلى مفهوم أكثر تقدّمًا هو "المنع عبر الإجهاض المسبق".
وبحسب المصادر الإسرائيلية، فإنه خلال المرحلة الحالية يستخدم "مركز منع إعادة التأهيل" التحليل الطيفي والحراري (MASINT) لتتبّع الأنشطة الصناعية والعسكرية في مواقع يشتبه بأنها تعيد إنتاج قدرات حزب الله الصاروخية أو الدفاعية. وتُستخدم تقنيات MASINT لتحديد نوع الوقود، والمكوّنات المعدنية، وحتى درجات الحرارة الناتجة عن تشغيل معدات محددة، مما يتيح رسم صورة دقيقة لمستوى النشاط داخل المنشآت المغلقة. وبحسب مزاعم القناة 12 الإسرائيلية، فإن فريق ال MASINT داخل المركز تمكن مؤخرًا من رصد إشارات حرارية متكررة في إحدى ضواحي البقاع اللبناني، تُطابق نمط تشغيل محركات صاروخية قصيرة المدى، وهو ما أدى إلى تنفيذ ضربة دقيقة بعد ساعات فقط. واستُعرض هذا المثال لتوضيح ما وصفوه بفلسفة "العمل الجديدة: من المستشعر إلى المنفّذ (Sensor-to-Shooter) خلال دقائق معدودة، بحيث لا تُمنح الخصوم فرصة لإخفاء الأدلة أو تفكيك خطوط الإنتاج".
فما هي MASINT بشكل عام؟
_تُعدّ الاستخبارات القائمة على القياس والتوقيعات (MASINT) الذراع التقني والعلمي للاستخبارات الحديثة. فبدلاً من الاعتماد بشكل أساسي على المصادر البشرية (HUMINT) أو الصور الجوية (IMINT) أو اعتراض الاتصالات (SIGINT)، تسعى MASINT إلى قياس الظواهر الفيزيائية ثم تحديد التوقيعات الفريدة التي تُنتجها الأجسام أو الأنظمة أو الأنشطة: مثل البصمات الحرارية، والمقاطع العرضية للرادار، والملامح الصوتية، والآثار الكيميائية، والاضطرابات الزلزالية، وانعكاسات الليزر، والتوقيعات النووية/الإشعاعية، وغيرها. وباختصار، عندما يهتز شيء ما، أو يُصدر طاقة، أو يترك بقايا كيميائية، أو يُحدث اضطرابًا في بيئته بطريقة قابلة للقياس، يمكن لتقنيات MASINT تحويل هذا الأثر الفيزيائي إلى معلومات استخباراتية. هذا التخصص معترف به في العقيدة العسكرية الأمريكية وعقيدة الدول الحليفة، ويُوصَف بأنه الجانب "العلمي والهندسي" لجمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية.
_تُسدّ هذه الاستخبارات الثغرات التي لا تستطيع التخصصات الاستخباراتية الأخرى سدّها. فهي قادرة على:
1)اكتشاف الظواهر غير الواضحة وتحديد خصائصها. يمكن لـ MASINT الكشف عن وجود منشأة مدفونة (من خلال الرادار المخترق للأرض أو البصمات الحرارية الشاذة)، أو دورة تزويد صاروخ باليستي بالوقود وبصمة إطلاقه، أو التركيب الكيميائي للمخلفات في موقع ما.
2)توفير تأكيد علمي دقيق وتفاصيل فنية. فبينما قد تُظهر الصور الجوية هيكلاً ما، تستطيع MASINT تحديد نوع الوقود المستخدم، وعمر الأنظمة الميكانيكية وحالة تآكلها، أو ما إذا كان الانفجار قد شمل مواد إشعاعية أو كيميائية - وهي تفاصيل تُغيّر بشكل جوهري الخيارات العملياتية والسياسية.
3)مقاومة الخداع الذي يُضلل المصادر الأقل دقة. نظرًا لأن MASINT تقيس الواقع المادي (الأطياف، والأشكال الموجية، والترددات، والاهتزازات)، يصعب على الخصم تزييف العديد من بصماتها بشكل مقنع على المدى الطويل. وهذا ما يجعل MASINT قيّمة بشكل خاص للإسناد التقني ولاكتشاف القدرات "الخفية".
4)على الصعيد العملياتي، تدعم MASINT القتال التكتيكي (مثل أجهزة تحديد مواقع إطلاق النار الصوتية، والتتبع القائم على الرادار)، والإنذار الاستراتيجي (مثل الكشف عن التفجيرات النووية أو إطلاق الصواريخ)، ودمج المعلومات الاستخباراتية (تأكيد أو نفي المعلومات الواردة من الاستخبارات البشرية/استخبارات الإشارات/استخبارات الصور). كما أنها تُحفز تطوير التكنولوجيا - فالتطورات في أجهزة الاستشعار، ودمج البيانات، والتعلم الآلي تُعزز بشكل مباشر نطاق MASINT وتوقيتها.
_التخصصات الفرعية:
1)استخبارات القياس والتوقيع الكهروضوئية/الأشعة تحت الحمراء (EO/IR).
2)استخبارات القياس والتوقيع الرادارية.
3)استخبارات القياس والتوقيع للترددات الراديوية.
4)استخبارات القياس والتوقيع الصوتية والزلزالية (الجيوفيزيائية).
5)استخبارات القياس والتوقيع للمواد والكيميائية والبيولوجية.
6)استخبارات القياس والتوقيع النووية/الإشعاعية.
ويستخدم كل تخصص فرعي أجهزة استشعار مخصصة أو معالجة متقدمة لمخرجات استخبارات الصور/استخبارات الإشارات لاستخراج معلومات على مستوى البصمة (على سبيل المثال، تحليل الشكل الموجي للرادار بدلاً من صورة رادار بسيطة).
كيف استخدمت إسرائيل تقنية MASINT؟
تستثمر إسرائيل بكثافة في الاستخبارات التقنية عبر المنصات الفضائية والجوية والبحرية والبرية؛ مثل الأقمار الاصطناعية والطائرات التجسسية المأهولة والطائرات دون طيار المخصصة للمهام الخاصة، وأنظمة الحرب الإلكترونية المتقدمة. فعل سبيل الذكر لا الحصر،
بات معلوماً بأن كيان الاحتلال الإسرائيلي قد قام بدمج تقنيات MASINT/IMINT الفضائية (IMINT هو استخبارات الصور). فهو يمتلك أقمارًا صناعية استطلاعية محلية الصنع (عائلة Ofeq/TecSAR)، بما في ذلك منصات رادار ذات فتحة تركيبية (SAR) توفر تصويرًا في جميع الأحوال الجوية ليلاً ونهارًا ويمكنها الكشف عن الأنشطة المخفية (حركة المركبات تحت الغطاء النباتي، وعلامات البناء، والاضطرابات الأرضية). وتوفر أجهزة الاستشعار الرادارية متعددة الأطياف المحمولة في الفضاء القياسات الأولية التي يستغلها محللو MASINT لاستخلاص التركيب المادي والسلوك الحراري وتوقيعات الحركة. وتُظهر عمليات الإطلاق الإسرائيلية الأخيرة – لا سيما قمر أوفيك 19 - استمرار الاستثمار في هذه القدرات.
الإجراءات المضادة العامة ضد استخبارات القياس والتوقيعات (MASINT)
نظرًا لأن هذا النوع من الاستخبارات يستغل الواقع المادي، فإن أكثر الإجراءات المضادة فعالية هي تلك التي تدير أو تعدل أو تخفي أو تعقد التوقيعات.
وفيما يلي الإجراءات العملية المضادة لهذه الاستخبارات:
1)إدارة التوقيعات والتمويه متعدد الأطياف: من خلال تقليل أو تعديل الانعكاسات البصرية والأشعة تحت الحمراء والرادارية عبر استخدام المواد (الطلاءات الممتصة للرادار، والشبكات متعددة الأطياف)، والتحكم الحراري (العزل، والتهوية المتحكم بها، والتبريد النشط)، والمعالجات السطحية التي تغير الانعكاسية الطيفية.
2)الإخفاء والخداع والتمويه عبر إنشاء توقيعات خاطئة (مصادر حرارة وهمية، انبعاثات زائفة، مركبات وهمية)، واستخدام التمويه والإخفاء لدمج المواقع في الخلفية، واستخدام عمليات الخداع التي تخلق توقيعات معقولة لكنها مضللة. ويمكن أن تكون وسائل التمويه حركية (قاذفات وهمية) أو إلكترونية (توقيعات باعثة خاطئة) - وكلاهما يمكن أن يعقد تحليل MASINT.
3)التحصين والتدريع المادي، بحيث يتم بناء المنشآت الحيوية في أعماق الأرض، واستخدام أغطية عازلة للانفجارات والحرارة، وبناء حواجز مادية لتقليل التوقيعات الدالة. فهناك صعوبة أمام أنظمة MASINT الجيوفيزيائية والحرارية في اكتشاف وتحديد خصائص المنشآت المدفونة بعمق والمحمية جيدًا.
4)التشويش والخداع. حيث تعتمد MASINT على الاستشعار النشط (الرادار، والليدار، وانعكاسات الليزر)، عندها يمكن استخدام أجهزة تستطيع تنفيذ مهام التشويش أو تزييف الإشارات لخداع المستشعرات.
5)السلوكيات التشغيلية والتشتيت: عن طريق تشتيت القوات والحد من الوتيرة التشغيلية التي تخلق أنماطًا ثابتة وقابلة للكشف. وبالنسبة لقوى المقاومة، فإن فترات التواجد القصيرة، والتنقل المتكرر، واستخدام بصمات مشابهة للبصمات المدنية تجعل عملية الربط المستمر لبيانات الاستخبارات التقنية (MASINT) أكثر صعوبة.
6)سرية المواد والعمليات: تقليل الانبعاثات المميزة، والتحكم في بصمات النقل، واستخدام موردين/عمليات غير قياسية يمكن أن يقلل من البصمات المادية.
الكاتب: غرفة التحرير