الإثنين 29 أيلول , 2025 03:50

غزة تحت إدارة مؤقتة: نهاية حلم الدولة أم بداية وصاية جديدة؟

دونالد ترامب

في كل صراع تاريخي، يختبئ وراء عناوين "السلام" و"إعادة الإعمار" مشروع أوسع لإعادة إنتاج الهيمنة. ما يُطرح اليوم حول غزة ليس مبادرة إنسانية خالصة ولا تسوية عادلة، بل محاولة لإلباس الوصاية ثوب الحل المؤقت، وتحويل الدماء والدمار إلى فرصة سياسية لواشنطن وتل أبيب. وبينما يُروَّج للمقترحات باعتبارها مخرجًا للأزمة، فإن جوهرها يثير سؤالًا وجوديًا للفلسطينيين: هل تمهّد الطريق لنهاية حلم الدولة، أم تفتح الباب أمام وصاية جديدة تعيد إنتاج الاحتلال بصيغة أكثر "مدنية".

خلف الكواليس: كيف بلورت واشنطن خطةً تضمن نجاة نتنياهو سياسياً؟

في كل مرة يتعرض فيها المشروع الاستعماري الصهيوني لأزمة وجودية، يتدخّل الراعي الأميركي لإعادة إنتاج اللعبة السياسية بطريقة تضمن بقاء الاحتلال واستمراره، لا إنهاءه. خطة الـ21 بنداً التي قدّمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب على غزة ليست استثناءً من هذه القاعدة، بل هي النسخة الأحدث من محاولة تجميل الاستعمار تحت مسميات إنسانية ودبلوماسية.

فالخطة لم تُصَغ عبر وسطاء تقليديين، كما اعتاد العالم أن يرى في الملفات الفلسطينية لا قطر ولا مصر هذه المرةـ بل كُتبت مباشرة بالتنسيق مع "إسرائيل"، لتتحول المفاوضات إلى عملية أحادية الجانب، حيث يملي الطرف الأقوى الشروط، فيما يُترَك الشعب الفلسطيني أمام خيارين: قبول الوصاية أو مواجهة مزيد من الإبادة.

من زاوية أوسع، فإن هذه الخطة تُمثّل ورقة إنقاذ شخصية لنتنياهو. فهو يواجه أزمة داخلية خانقة: محاكم فساد قد تُطيح به إلى السجن، وضغط شعبي من عائلات الأسرى الذين يتهمونه بإفشال كل فرص التوصل إلى صفقة تبادل في ظل هذا المشهد، يُقدّم ترامب له مخرجاً سياسياً: اتفاق يضمن الإفراج عن الرهائن مقابل تثبيت واقع إداري وأمني جديد في غزة، يقدّم للرأي العام "الإسرائيلي" صورة "الانتصار"، فيما يترك لنتنياهو وقتاً إضافياً للبقاء في الحكم.

لكن الحقيقة الأعمق هي أن واشنطن لا تسعى فقط لإنقاذ نتنياهو، بل لإعادة صياغة مستقبل غزة بما يتوافق مع الهيمنة الأميركية "الإسرائيلية" على المنطقة، حتى لو كان الثمن دفن أي أفق لحل الدولة الفلسطينية.

الإنقاذ أم الانتداب؟ قراءة سياسية في بنود "حلّ" لم تُكتب بموافقة المعنيين

عند قراءة بنود الخطة بنداً بنداً، تتضح معالم مشروع لا علاقة له بالتحرر أو تقرير المصير.

- أولاً، يشترط النص أن تكون غزة "منطقة خالية من التطرف والإرهاب". وهي صياغة مطاطة، مفتوحة على التأويل "الإسرائيلي". أي نشاط مقاوم يمكن تصنيفه تحت هذه العبارة، بما يمنح الاحتلال وحلفاءه شرعية دائمة للتدخل.

- ثانياً، إدارة القطاع ستكون بيد "حكومة تكنوقراط انتقالية" تحت إشراف لجنة دولية تنشئها الولايات المتحدة. هذا يعني عملياً نقل غزة من حصار عسكري "إسرائيلي" مباشر إلى وصاية دولية مقنّعة، حيث تبقى اليد الأميركية ـ ومعها الأوروبية والعربية ـ هي صاحبة القرار الفعلي في كل تفاصيل الحياة اليومية.

- ثالثاً، إدماج قوة أمنية دولية إلى حين "تأهيل" شرطة فلسطينية محلية. وكأن الفلسطينيين شعب قاصر يحتاج إلى تدريب ليتعلم كيف يدير أمنه الداخلي، بينما الحقيقة أن الهدف هو نزع السلاح وتفكيك البنية المقاومة، مع خلق جهاز أمني على مقاس الاحتلال.

يضاف إلى ذلك البعد الاقتصادي: منطقة اقتصادية خاصة، تخفيض تعريفات، وجذب استثمارات. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر تنموياً، لكنه في جوهره مشروع لإعادة ربط غزة بالاقتصاد الإقليمي بشروط السوق النيوليبرالية، حيث تُدار التنمية من الخارج وتُوجَّه بما يخدم الاستقرار الأمني لـ"إسرائيل"، لا بما يعزز استقلالية الفلسطينيين.

بهذا المعنى، فإن الخطة ليست "إنقاذاً" لغزة، بل إعادة صياغة لانتداب جديد، تُدار فيه الأرض بواجهة فلسطينية، وبجوهر أميركي "إسرائيلي" يضمن استمرار السيطرة.

بلير في قلب المؤامرة: من يقرر مصير شعب محاصر؟

أحد أكثر البنود إثارة للسخط الفلسطيني كان الحديث عن توني بلير كخيار مطروح لإدارة المرحلة الانتقالية. بالنسبة للفلسطينيين، بلير ليس وسيطاً محايداً، بل شخصية ارتبطت اسمه بالدمار والهيمنة.

فهو الذي لعب دوراً أساسياً في تبرير الحرب على العراق، وهو الذي عمل سنوات طويلة كموفد للجنة الرباعية الدولية، حيث كان حضوره أقرب إلى ديكور سياسي لتجميل استمرار الاستيطان "الإسرائيلي"، لا إلى دعم حقيقي لحقوق الفلسطينيين. ليس غريباً أن يصفه قيادي في حماس بأنه "شقيق الشيطان" و"نذير شؤم"، وأن يطالب بمحاكمته بدلاً من منحه أي موقع في إدارة غزة.

لكن مجرد طرح اسم بلير يوضح ما تفكر به واشنطن: إدارة غزة ليست شأناً فلسطينياً داخلياً، بل مجالاً لإعادة تدوير رموز النظام الدولي القديم، الذين يجيدون التلاعب بالخطاب "السلامي" بينما يخدمون عملياً أجندات الاحتلال.

هنا يُطرح السؤال الجوهري: من يقرر مصير غزة؟ هل هو الشعب الفلسطيني الذي دفع مئات آلاف الشهداء والمصابين والمشرّدين، أم سياسيون غربيون تلطخت أيديهم بدماء شعوب المنطقة؟

التفاوض تحت القصف: إعادة إنتاج الخديعة

الخطة الأميركية تتزامن مع استمرار آلة الحرب "الإسرائيلية" في القتل والتدمير. أي مفاوضات تُطرح في ظل القصف لا يمكن أن تكون متكافئة. هذه هي الخدعة القديمة التي يعرفها الفلسطينيون جيداً: خلق كارثة إنسانية ثم استخدام هذه الكارثة كورقة ضغط لإجبار الضحية على القبول بالشروط.

بند الرهائن مثال صارخ: الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين مقابل إعادة الرهائن الإسرائيليين. لكن كيف يُختزل الصراع التاريخي في ملف رهائن لا يتجاوز عددهم المئات، بينما يعيش أكثر من مليوني إنسان في سجن مفتوح اسمه غزة منذ عقدين؟ هذه ليست معادلة أخلاقية، بل ابتزاز سياسي يراد منه قلب الأدوار: المحتل يصبح ضحية، والمقاوم يصبح جلاداً.

واشنطن شريك في الجريمة: خطاب إنساني لشرعنة الإبادة

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ارتكبت "إسرائيل" ـ بدعم أميركي كامل ـ إبادة جماعية في غزة، خلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين. وفي الوقت نفسه، تُعيد واشنطن صياغة الخطاب لتظهر بمظهر المنقذ.

الإعلام الغربي يكرر الرواية ذاتها: "إسرائيل تدافع عن نفسها"، والفلسطينيون مجرد "مخرّبين". هذا الخطاب ليس بريئاً، بل هو جزء من إستراتيجية أميركية أشمل: خلق غطاء سياسي وأخلاقي للجرائم، ثم التقدّم لاحقاً بمقترحات "سلامية" تُعيد إنتاج السيطرة بأدوات مختلفة.

بهذا المعنى، الخطة الأميركية ليست سوى محاولة لتبييض صفحة الإبادة، وتحويل الأنظار من الجرائم إلى مشاريع "إعمار" و"تنمية"، وكأن المشكلة مجرد أزمة بنية تحتية، لا مسألة استعمار واحتلال.

إلى أين يقود هذا المسار؟

إذا قُيِّض لهذه الخطة أن ترى النور، فإن النتيجة المباشرة ستكون تثبيت واقع الوصاية، مع دفن أي أفق للدولة الفلسطينية المستقلة. الحديث عن "طريق موثوق نحو إقامة دولة" في البند الأخير ليس سوى غطاء لفظي، هدفه شراء الوقت، تماماً كما جرى منذ أوسلو حتى اليوم.

لكن التاريخ يعلمنا أن هذه المشاريع لا تُنهي الصراع، بل تؤججه. فالشعب الذي قاوم حصاراً دامياً لعقود، ورفض أن يُكسر رغم المجاعة والقصف، لن يقبل بأن يُدار عبر وصاية دولية أو رموز كبلير. وكل محاولة لإقصاء الفصائل الفلسطينية عن إدارة شؤون غزة لن تزيد إلا من تأجيج المقاومة وتعميق الرفض الشعبي.

 نهاية حلم الدولة أم بداية وصاية جديدة؟

إن ما يُطرح اليوم ليس سوى إعادة إنتاج للانتداب، بوجوه جديدة وخطاب أكثر نعومة. واشنطن تريد أن تظهر بمظهر المنقذ، بينما هدفها الحقيقي هو ضمان أمن "إسرائيل" واستقرار نظامها السياسي، ولو على حساب إبادة الفلسطينيين.

السؤال المحوري ليس: هل تنجح الخطة الأميركية في وقف الحرب مؤقتاً؟ بل: ماذا يعني هذا "الحل" لمستقبل القضية الفلسطينية؟ إذا قُدّر له أن يُطبّق، فإنه سيعني عملياً نهاية حلم الدولة الفلسطينية، وبداية مرحلة وصاية دولية مقنّعة، حيث يُعاد رسم المشهد بما يخدم الاحتلال لا التحرر.

لكن، كما علّمتنا غزة مراراً، الشعوب ليست أوراقاً على طاولة مفاوضات، ولا رهائن في خطط الدول الكبرى. الشعب الذي حوّل الحصار إلى صمود، والدمار إلى مقاومة، قادر على إفشال أي محاولة لتحويل قضيته إلى ملف إداري يُدار من الخارج. وهذا ما يجعل السؤال الحقيقي: هل يدرك العالم أن من يصنع الحرب لا يمكن أن يكون وسيطاً للسلام؟


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور