الأربعاء 01 تشرين أول , 2025 03:16

خطة ترامب: وصاية جديدة بقرار أميركي وغطاء عربي.. أي خيار أمام حماس؟

نتنياهو وترامب والدمار في غزة وعناصر من المقاومة

في كل مرة يقترب الصراع "الفلسطيني–الإسرائيلي" من لحظة انفجار كبرى، تُسارع واشنطن إلى طرح "خطة إنقاذ"، لا لإنقاذ الفلسطينيين من الإبادة أو الاحتلال، بل لإنقاذ مشروع السيطرة ذاته. هكذا جاءت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة: ليست خطة سلام، ولا حتى مبادرة لإعادة الإعمار، بل إعادة إنتاج للانتداب، بوجوه جديدة وخطاب أكثر نعومة، وذلك من خلال إعادة صياغة الاحتلال بثوب أكثر "مدنية"، عبر إدارة انتقالية دولية، تحت مظلة أميركية، وبغطاء عربي.

خلف الكواليس: واشنطن تنقذ نتنياهو

لا يمكن فصل الخطة عن سياق الأزمة الداخلية التي يعيشها بنيامين نتنياهو. الرجل محاصر بين محاكم الفساد التي تلاحقه، وضغط عائلات الأسرى "الإسرائيليين" الذين يتهمونه بالفشل في التوصل إلى صفقات تبادل، واحتقان داخلي قد يفجّر ائتلافه الحكومي في أي لحظة. في هذه اللحظة الحرجة، قدّم ترامب له خشبة خلاص: اتفاق يضمن الإفراج عن الرهائن مقابل ترتيبات أمنية وإدارية في غزة، يُسوَّق داخليًا على أنه "نصر سياسي"، بينما يمنح نتنياهو وقتًا إضافيًا للهروب من السجن ومن انهيار حكمه.

لكن إنقاذ نتنياهو ليس سوى جزء من الصورة. واشنطن تريد عبر هذه الخطة إعادة تثبيت وصايتها على غزة، وتحويلها من سجن محاصر إلى سجن مُدار دوليًا، تحت شعارات "التنمية" و"التأهيل الأمني"، فيما يبقى الاحتلال هو السيد الفعلي.

إلا أن المفارقة أن الخطة نفسها قوبلت برفض من أقصى اليمين الإسرائيلي". وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وصفها بأنها "فشل تاريخي" يعيد إنتاج أوسلو، وتمنى أن ترفضها حماس لتفشل. بالنسبة له، أي انسحاب أو وصاية دولية يعني فقدان السيطرة المطلقة. هذا الانقسام يوضح هشاشة المشهد: ما يُسوَّق كحل "واقعي" قد لا يرضي لا الفلسطينيين ولا "الإسرائيليين".

الخطة في جوهرها: غزة تحت وصاية دولية

عند قراءة البنود بنداً بنداً، يتضح حجم الخديعة:

- 60% من القطاع يبقى تحت سيطرة إسرائيلية مفتوحة المدة.

- لا جدول زمني للانسحاب ولا ضمانات دولية لتنفيذه.

- نزع سلاح المقاومة بالكامل شرط مسبق لأي تقدم.

- إدارة انتقالية دولية بقيادة أميركية، مع طرح أسماء مثل توني بلير، في إهانة صريحة للذاكرة الفلسطينية.

- ترتيبات أمنية دولية تدرب "شرطة فلسطينية جديدة"، وكأن الفلسطينيين شعب قاصر يحتاج إلى وصاية أمنية.

ما يظهر هنا هو أن الاحتلال المباشر يُستبدل بانتداب دولي مقنّع، حيث تُدار غزة عبر "واجهة فلسطينية" ولكن بقرار خارجي.

البعد الاقتصادي: إعمار مشروط

الخطة تُرفق بوعود "إعادة إعمار" ومشاريع اقتصادية خاصة، لكن على الطريقة النيوليبرالية: استثمارات مشروطة، مناطق اقتصادية ملحقة بالأسواق "الإسرائيلية"، وتدفق أموال لا لبناء سيادة فلسطينية، بل لضمان "استقرار أمني" يخدم "إسرائيل". إنها نسخة جديدة من "السلام الاقتصادي" الذي طالما روج له نتنياهو: إعاشة بلا حرية، وبنية تحتية بلا سيادة.

الغطاء العربي: ترحيب مضطرب

وزراء خارجية مصر، الأردن، السعودية، قطر، الإمارات، تركيا، باكستان، وإندونيسيا، رحبوا علناً بالجهود الأميركية. لكن وراء الكواليس، بحسب موقع آكسيوس، كان الغضب سيد الموقف، خصوصاً من ومصر وقطر وتركيا. فالخطة التي عُرضت على القادة في البداية تغيّرت بالكامل بعد تعديلات نتنياهو، حتى أن قطر حاولت ثني البيت الأبيض عن نشر النسخة المعدلة، لكن ترامب أصرّ على تمريرها. النتيجة: موقف عربي ملتبس يجمع بين الترحيب الدبلوماسي والاعتراض الصامت، ما يمنح واشنطن الغطاء اللازم للمضي قدماً.

في المقابل، حذّر نائب رئيس الجمهورية المصري سابقًا محمد البرادعي من أنها "مخطط خنوع وإذعان". هذا الانقسام يعكس معضلة أعمق: بعض الأنظمة العربية ترى في الخطة وسيلة لتجنب الانفجار الإقليمي، بينما تعي شعوب المنطقة أن جوهرها تكريس الاحتلال بصيغة أكثر نعومة.

حماس بين "عدم الإعاقة" و"الرفض الصريح"

إزاء هذه الخطة، أعلنت حركة الجهاد الإسلامي رفضًا صريحًا، بينما بدت حماس أكثر حذرًا. الحركة وعدت بدراسة الخطة "بمسؤولية"، بالتشاور مع قطر ومصر وتركيا. موقفها المبدئي يتلخص في قاعدة "عدم الإعاقة": أي أنها لن تكون حجر عثرة أمام وقف الإبادة، لكنها في الوقت نفسه لا تعلن قبولًا صريحًا بخطة تنتقص من السيادة الفلسطينية. هذا الموقف الهلامي يعكس مأزقاً حقيقياً:

- من جهة: وقف الحرب مطلب فلسطيني جامع، وكل دقيقة تأخير تعني المزيد من الضحايا.

- من جهة أخرى: القبول بالخطة بصيغتها الحالية يعني تسليم غزة لوصاية دولية ونزع سلاح المقاومة، أي عملياً إنهاء المشروع الوطني.

هنا يُطرح السؤال: هل تملك حماس خياراً غير المناورة، عبر طلب تعديلات وتوضيحات، من دون الانجرار إلى فخّ القبول الكامل؟

معضلة حماس: مناورة أم مواجهة؟

ما الذي ستفعله حماس؟ ثمة ثلاث خيارات:

- رفض صريح: يمنح إسرائيل وواشنطن ذريعة لتصعيد الحرب واتهام المقاومة بعرقلة “السلام”.

- قبول مشروط: قد يضعف شرعية المقاومة ويُظهرها كجزء من الوصاية الدولية.

- موقف هلامي (عدم الإعاقة): وهو الأرجح، لأنه يسمح بالمناورة السياسية، وبتحميل واشنطن وإسرائيل مسؤولية فشل الخطة، مع المحافظة على المطلب الإنساني بوقف الحرب.

السيد نصر الله والهيمنة الأميركية: الغائب الحاضر معنا

لو كان السيد حسن نصر الله حياً اليوم، لكان خطابه شديد الوضوح: الخطر ليس فقط في إسرائيل، بل في الهيمنة الأميركية التي تحميها. كان يكرر دائماً أن أميركا هي أصل المشكلة، لأنها منعت الجيوش من القتال، وحولت المنطقة إلى ساحات خاضعة، وضمنت بقاء الكيان الغاصب. من هذا المنطلق، لكان رأى في خطة ترامب محاولة جديدة لتثبيت الوصاية الأميركية، ودفن أي أفق للتحرر. ولربما ذكّر بما كان يقوله دائماً: "لا تحرير لفلسطين بمعزل عن مواجهة الهيمنة الأميركية".

وفي النهاية، كان سيؤكد أن أي قرار يتوافق عليه الإخوة الفلسطينيون ويعبّر عن إرادتهم الحرة، سيكون محل احترام وقبول لدى المقاومة وحلفائها، لأن أصحاب القضية هم وحدهم من يحددون مسارها ومصيرها.

الخديعة الأخلاقية: من الإبادة إلى "السلام"

واشنطن تسعى لتبييض صفحة الإبادة عبر خطاب "إنساني". الإعلام الغربي يصوّر "إسرائيل" ضحية "الإرهاب"، ويقدّم الفلسطينيين كـ"مخرّبين". ثم تأتي الخطة لتقول: "ها نحن نقدم لكم فرصة حياة جديدة". إنها الخدعة نفسها التي يعرفها الفلسطينيون منذ أوسلو: اصنع كارثة، ثم قدّم وصاية دولية كخلاص. النتيجة: تحييد البعد السياسي للصراع وتحويله إلى ملف إداري-إنساني.

المستقبل: بين الانتداب والانتفاض

إذا مضت الخطة كما هي، فسنشهد ولادة “انتداب دولي جديد” على غزة. لكن كما أظهرت التجربة التاريخية، لا الانتداب البريطاني ولا أوسلو استطاعا إنهاء روح المقاومة. الشعب الذي واجه حصاراً استمر لعقود لن يقبل بوصاية جديدة، حتى لو جاءته بثوب “دولي” أو بوعود إعمار. النتيجة المرجحة إذن: جولة جديدة من المقاومة، وربما انتفاضة مغايرة، تُعيد رسم المعادلة.

خطة ترامب ليست سلاماً، بل إعادة إنتاج للهيمنة. العرب الذين وفّروا غطاءً دبلوماسياً للخطة يعلمون ذلك، لكنهم يوازنون بين ضغوط واشنطن ومخاوفهم من استمرار الحرب. المقاومة الفلسطينية تدرك الخطر، لكنها في الوقت نفسه تدرك الحاجة إلى المناورة. أما المستقبل، فلن يُحسم في مكاتب نيويورك أو البيت الأبيض، بل على الأرض في غزة والضفة، وفي الوعي الدولي الذي بدأ يتغير مع مشاهد الإبادة.

يبقى السؤال الحاسم: هل يقبل الفلسطينيون بأن يتحول دمهم إلى ورقة في مشروع وصاية أميركية جديدة؟ الإجابة على الأرجح تأتي من غزة نفسها، حيث تعلّم العالم أن الشعب الذي يرفض الموت جوعاً تحت الحصار لن يقبل أن يُدار كملف إنساني بلا سيادة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور