تعود سلطنة عمان مجدداً إلى الواجهة كوسيط رئيسي في الملف اليمني، مع تجدد الحديث عن تحركاتها لإحياء مسار السلام المتعثر بين صنعاء والسعودية. فالهدوء الحذر الذي ساد خلال الأشهر الماضية يبدو مهدداً اليوم، بعد تصاعد الاتهامات المتبادلة بشأن خرق اتفاق التهدئة الاقتصادية الموقّع في حزيران/يونيو عام 2024، والذي شكّل أحد الأعمدة الأساسية "لخارطة الطريق" الأممية التي رعتها السلطنة بهدف الانتقال من مرحلة الهدنة العسكرية إلى مرحلة التسوية الشاملة.
لكن هذا المسار، الذي بدا في حينه مؤشراً إلى بداية استقرار مستدام، بدأ يتآكل بفعل الضغوط الاقتصادية التي تستهدف صنعاء بشكل مباشر، سواء عبر التضييق على التجارة أو تعطيل حركة الاستيراد إلى المناطق الواقعة تحت إدارتها. وفي المقابل، ردّت صنعاء بتحذير واضح مفاده أن "معادلة الرد بالمثل ما زالت قائمة"، في تذكير صريح بأن التهدئة الاقتصادية ليست من طرف واحد، وأن المساس بحقوق اليمنيين في المعيشة والرواتب والموانئ سيقابل بإجراءات مماثلة قد تطال منشآت مالية ونفطية داخل السعودية نفسها.
التحذير الذي أطلقه القائم بأعمال رئيس حكومة صنعاء، محمد مفتاح، يعكس موقفاً سياسياً محسوباً يهدف إلى تذكير الرياض بأن ملف الاقتصاد هو اليوم أداة ضغط مركزية في المعادلة اليمنية. فبعد أن تحولت الحرب من مواجهات عسكرية إلى صراع اقتصادي متدرج، باتت أدوات الحصار والتجويع، بحسب رؤية صنعاء، امتداداً للعدوان بوسائل مختلفة. ومن هنا جاء تأكيد مفتاح أن اللعبة لن تستمر، في إشارة إلى أن استمرار القيود المالية والمصرفية سيعيد المنطقة إلى دوامة التصعيد التي كان يفترض أن تُطوى بخارطة الطريق الأممية.
ترى بعض الاوساط الاقتصادية اليمنية أن الاتفاق الاقتصادي الذي تضمّن التزامات سعودية بعدم تعطيل تدفق البضائع والتحويلات، مقابل التزام صنعاء بتهدئة الجبهة الحدودية، لم يُفعّل بالكامل. ومع عودة التوتر، يُخشى أن يتحول الاقتصاد إلى ساحة مواجهة جديدة، خاصة في ظل تأكيد قيادات صنعاء أن بنك الأهداف الاقتصادي، جرى تحديثه ليشمل بنوكاً وشركات نفط ومؤسسات مالية سعودية. خاصة وان صنعاء سبق وان استخدمت أدوات الضغط الاقتصادي بفعالية، سواء عبر تعطيل صادرات النفط اليمني أو استهداف منشآت حساسة في العمق السعودي.
في المقابل، تتحرك سلطنة عمان لإعادة وصل ما انقطع بين صنعاء والرياض، مدفوعة بإدراكها أن استمرار التوتر يهدد الاستقرار الإقليمي الأوسع، لا سيما في ظل انشغال المنطقة بملفات أمنية متشابكة تمتد من غزة إلى البحر الأحمر. تغريدة الخبير العُماني علي بن مسعود المعشني، التي تحدث فيها عن تصدر اليمن للمشهد الإقليمي في الأيام المقبلة فُهمت كإشارة إلى حصول مسقط على ضوء أخضر سعودي لاستئناف الوساطة، وربما لإعادة تدوير بنود خارطة الطريق بما يسمح بإنعاش مسار المفاوضات.
التحرك العُماني يصطدم بعقبتين أساسيتين: أولاهما تآكل الثقة بين صنعاء والرياض وهو أمر تراكمي منذ عقود، وثانيتهما الدور الأميركي الذي ما زال يُنظر إليه من قبل صنعاء كعامل تعطيل، لا سيما بعدما استخدمت واشنطن الحرب على غزة ذريعة لتجميد المسار اليمني خلال العامين الماضيين. ولعلّ ما يعزز هذا الانطباع أن كل محاولات الأمم المتحدة لاستئناف التفاوض السياسي لم تتجاوز حدود النقاشات الشكلية، فيما بقيت القضايا الإنسانية والاقتصادية -من صرف الرواتب إلى رفع الحصار- دون أي تقدم ملموس.
بالتالي، يبدو أن عُمان أمام مهمة دقيقة لإعادة ترتيب أولويات التفاوض، بدءاً من إعادة تثبيت اتفاق التهدئة الاقتصادية، باعتباره حجر الزاوية لأي تقدم لاحق. فبدون ضمانات حقيقية تمنع استمرار التضييق التجاري والمالي، لن تتمكن صنعاء من تسويق أي تسوية داخلية، ولن تقتنع الرياض بأن الشريك اليمني قادر على ضبط ردود الفعل في الشارع وفي الجبهة الحدودية.
المرحلة المقبلة ستُظهر ما إذا كان يمكن إعادة بناء الثقة على قاعدة المصالح المتبادلة، أو أن التوتر سيتفاقم باتجاه مواجهة اقتصادية مفتوحة. لكن الثابت أن صنعاء لم تعد تتعامل مع المسار الاقتصادي بوصفه ملفاً ثانوياً، بل كجزء أساسي من معركة السيادة، وأن أي إخلال بالتزامات الرياض سيُقرأ في صنعاء كعودة إلى مربع المواجهة. وفي المقابل، تبدو عُمان، بحكم موقعها ودورها، الطرف الوحيد القادر على تحويل هذا التوتر إلى فرصة جديدة للسلام، إذا ما توافرت الإرادة السياسية لدى الجانبين.
الكاتب: غرفة التحرير