لا يختلف اثنان اليوم في "إسرائيل" على أن الحرب على غزة دخلت مرحلة مأزومة. فبعد نحو عامين من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها المؤسسة العسكرية والسياسية ضد الفلسطينيين، يتضح أن "الانتصار" غاب عن الأفق، وأن ما تبقى هو تبادل الاتهامات وتبادل الأدوار بين العسكريين والسياسيين. في هذا السياق، يطلّ النقاش حول الأسرى، كأحد أخطر الملفات التي تكشف عمق الشرخ داخل المنظومة الحاكمة في تل أبيب.
الجيش يناور بالصفقة
ما نقلته صحيفة "هآرتس" عن مصادر عسكرية يكشف الكثير: "الجيش الإسرائيلي"، عبر رئيس أركانه إيال زامير، يضغط باتجاه استنفاد المفاوضات مع حركة حماس قبل الشروع في أي عملية واسعة داخل مدينة غزة. الرسالة واضحة: "لا احتلال لغزة قبل استعادة الأسرى". الجيش يعرف أن تدمير مدينة بحجم غزة يحتاج عاماً على الأقل، وأن فاتورة الدم ستكون فادحة. والأهم أن أي عملية من هذا النوع ستعرّض حياة الأسرى للخطر، وهو ما قد يترك ندبة أخلاقية داخلية قاسية على المؤسسة العسكرية التي لطالما قدّمت نفسها كحامية لـ"المجتمع الإسرائيلي".
زامير لم يكتفِ بالتحذير، بل ذهب أبعد حين دعا علناً إلى قبول "صفقة ستيف ويتكوف المعدلة"، مؤكداً أن الجيش "هيأ الظروف" لإتمام التبادل. في المقابل، رمى الكرة في ملعب نتنياهو، قائلاً إن القرار بيد رئيس الحكومة. هنا يتضح أن المؤسسة العسكرية تحاول التنصّل من المسؤولية الأخلاقية والسياسية في حال قُتل الأسرى أثناء اجتياح غزة.
نتنياهو يصرّ على الحرب
في المقلب الآخر، يظهر بنيامين نتنياهو متشدداً إلى أقصى حد. الرجل الذي يواجه خطر السقوط السياسي والجنائي على حد سواء، يرى في استمرار الحرب مخرجاً وحيداً. لذلك يرفض أي صفقة لا تحمل ختم "الانتصار الإسرائيلي"، حتى لو كانت ثمنها أرواح الأسرى الذين يزعم أنه يخوض الحرب من أجل إعادتهم. بل أكثر من ذلك، صادق وزير دفاعه يسرائيل كاتس على خطط الجيش لاحتلال غزة، مهدداً بتحويلها إلى رفح وبيت حانون جديدتين.
نتنياهو يدرك أن التراجع الآن يعني اعترافاً بفشل المشروع كله، أي أن "عربات جدعون" لم تحقق أهدافها، وأن "إسرائيل" لم تتمكن من إخضاع حماس أو كسر المقاومة الفلسطينية. لذلك، يراهن على الوقت، وعلى الدعم الأميركي، وتحديداً من إدارة دونالد ترامب، التي تُظهر استعداداً لتغطية أي خيار عسكري حتى لو كان الثمن مزيداً من الدماء والمجازر.
انقسام داخلي يهدد المؤسسة
ما يجري ليس مجرد نقاش تكتيكي حول صفقة تبادل. هو انقسام حقيقي داخل "المؤسسة الإسرائيلية". فالعسكر، المنهكون والممتعضون من طول أمد الحرب، يلوّحون بخطر التفكك الداخلي والتمرّد الصامت في صفوف الاحتياط. بينما السياسيون، وخصوصاً نتنياهو وحلفاءه من الصهيونية الدينية، يصرون على الحرب الطويلة مهما كانت الكلفة.
المشهد في الاجتماع الأمني المصغر الأخير، حين احتدم السجال بين زامير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ليس عرضياً. إنه يعكس صراعاً أعمق بين من يريد صفقة بأي ثمن لإنقاذ الجيش من الاستنزاف، وبين من يرى في استمرار الحرب الضمانة الوحيدة للبقاء السياسي.
حماس تضع النقاط على الحروف
في هذه المعمعة، تواصل حماس إدارة أوراقها بمرونة تكتيكية ووضوح. الحركة سارعت إلى اتهام نتنياهو بإفشال جهود الوسطاء، مؤكدة أن موافقتها على المقترح الأخير كشفت عن نية الاحتلال في عرقلة أي اتفاق محتمل. بالنسبة للحركة، فإن وقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد لإعادة الأسرى، وهي بهذا تضع نتنياهو أمام مسؤولية علنية أمام الرأي العام الإسرائيلي.
أكثر من ذلك، تقترح الصفقة المطروحة حالياً وقفاً لإطلاق النار لمدة 60 يوماً، يترافق مع تبادل على مرحلتين وإعادة انتشار الجيش قرب الحدود. هذا المقترح، وإن بدا مرحلياً، فإنه يتضمن نقاشاً حول تهدئة دائمة من اليوم الأول، ما يعني عملياً اعترافاً "إسرائيلياً" بالعجز عن حسم الحرب عسكرياً.
حسابات فاشلة
من منظور عسكري بحت، حاول زامير أن يوضح لسموتريتش ما يقترحه نتنياهو وكاتس مغامرة غير محسوبة. خمسة عوامل رئيسية تجعل خيار احتلال غزة محفوفاً بالفشل: أولاً، العملية غير مضمونة النجاح بعدما فشلت كل العمليات السابقة. ثانياً، لا ضمان لاستعادة الأسرى بل احتمال تصفيتهم. ثالثاً، الخسائر البشرية في صفوف الجيش ستكون عالية جداً، كما أظهرت عملية خان يونس. رابعاً، طول مدة العملية (عام على الأقل) غير قابل للتحمل عسكرياً وشعبياً. خامساً، لا يمكن الجمع بين هدفين متناقضين: القضاء على حماس وإعادة الأسرى.
هذه الحقائق يعرفها زامير جيداً، ولذلك يحاول التخفف من المسؤولية. لكن مجرد القبول بطرح تدمير مدينة بحجم غزة، بما فيها من مليون إنسان، يكشف المستوى الإجرامي للعقلية "العسكرية الإسرائيلية".
أزمة كيان
انقسام "المؤسسة الإسرائيلية" ليس مجرد خلاف عابر بين الجنرالات ورئيس الحكومة. إنه يعكس أزمة أعمق تضرب بنية الكيان نفسه: جيش يعجز عن تحقيق نصر، قيادة سياسية تعيش على الهروب إلى الأمام، ومجتمع ممزق بين هاجس الأسرى وفوبيا الهزيمة.
في نهاية المطاف، قد تنفجر الأزمة على شكل مواجهة داخلية، خصوصاً إذا استمرت المقاومة في إيقاع خسائر كبيرة بصفوف الجيش. عندها ستتعالى الأصوات المنادية بوقف الحرب فوراً، وستنكشف حقيقة أن كل ما جرى لم يكن سوى فصل جديد من الغطرسة "الإسرائيلية" التي تنكسر أمام صمود غزة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]