الأربعاء 08 تشرين أول , 2025 03:52

أثمان الغطرسة: الحرب التي ابتلعت اقتصاد إسرائيل

نتنياهو والاقتصاد الإسرائيلي

تواجه إسرائيل اليوم أخطر مراحل تآكلها الاقتصادي منذ قيامها، بعدما تداخلت حرب الإبادة على غزة مع تحوّل المواقف الدولية، وخصوصًا الأوروبية، من الشراكة إلى المقاطعة. فقد أدّى السلوك العسكري المتوحش إلى انكشافٍ سياسي واقتصادي عميق، إذ باتت العزلة تطوّق الكيان من كل جانب، وتحوّلت صورة "الدولة المزدهرة" إلى اقتصادٍ مترنّح يعيش على قروضٍ وعقودٍ ملغاة وثقةٍ ماليةٍ آخذة بالتبخّر. فالحرب التي أرادت إسرائيل من خلالها ترميم ردعها، أعادت تعريفها كدولة مارقة تُنتهك باسمها القوانين الدولية، وتُحاسب اليوم بالعملة التي طالما استخدمتها: الاقتصاد.

بدأت المقاطعة بشكل رمزي عبر حملات فنية وثقافية، لكنّها سرعان ما امتدت إلى الاقتصاد الفعلي. شركات أوروبية كبرى أوقفت استيراد منتجات إسرائيلية، والحكومات باتت تتحرّك تحت ضغطٍ شعبي غير مسبوق، ما دفع ببعضها إلى إلغاء صفقاتٍ دفاعية بمليارات الدولارات. أصبحت الاجتماعات التجارية تُعقد في السرّ، والعقود تُمحى من المواقع الإلكترونية خشية الغضب الشعبي. ومعها، تراجعت الصادرات في قطاعاتٍ حيوية كالزراعة والتكنولوجيا، وتحوّلت "العلامة الإسرائيلية" إلى عبءٍ تجاري، بينما تخشى وكالات التصنيف الائتماني من انهيار الثقة بالنظام المالي مع تضخّم العجز والدين العام نتيجة الإنفاق العسكري المفرط.

في أوروبا، يتبدّل المزاج بسرعة. لم تعد تل أبيب شريكًا مفضّلًا، بل متهمًا بجرائم حرب. الاتحاد الأوروبي بدأ يناقش علنًا تعليق اتفاقيات التجارة، ووزراء في حكومة نتنياهو مهددون بعقوبات شخصية. دول مثل إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا تجاوزت الخطوط الرمزية، فاعترفت بفلسطين وسحبت أو جمّدت عقود تسليحٍ مع إسرائيل، في حين ضغطت البرتغال وفرنسا لوقف تصدير السلاح وإعادة تقييم العلاقات. تحوّل هذا المشهد إلى مؤشرٍ أعمق: إسرائيل تفقد أحد أعمدتها التاريخية – القبول الغربي بها كجزء من "العالم المتحضّر".

المخاطر لا تتوقف عند حدود الاقتصاد، بل تتجاوزها إلى بنية الكيان ذاته. ففقدان الأسواق الأوروبية يعني خسارة المورد الأساسي للعملات الصعبة والتكنولوجيا المتقدمة. ومع المقاطعة الأكاديمية والثقافية المتنامية، تُفقد إسرائيل ما كانت تسميه "رأس مالها الأخلاقي"، بينما يتضاعف الضغط الداخلي نتيجة ارتفاع الأسعار وازدياد البطالة وتراجع قيمة الشيكل. الاقتصاد الإسرائيلي الذي نشأ على الانفتاح والتصدير بات مهددًا بالانغلاق والانكماش، فيما تتآكل قدرة الدولة على تمويل جيشها ومؤسساتها الأمنية دون دعم خارجي.

التحول الأوروبي لم يأتِ من فراغ، بل تراكم على مدى عامٍ من الصدمة الإنسانية في غزة. صور المجازر والدمار دفعت الرأي العام الغربي إلى محاسبة حكوماته، فيما بدا الاتحاد الأوروبي عاجزًا عن التوفيق بين شعارات حقوق الإنسان ودعمه لحليفٍ يرتكب جرائم ضد الإنسانية. هذا الانكشاف الأخلاقي ولّد حاجةً أوروبية لإعادة التموضع، فبدأت بروكسل في رسم مسافة عن واشنطن، وفتح الباب أمام عقوباتٍ على إسرائيل تماثل تلك التي فُرضت على روسيا. وبذلك، لم يعد الحديث عن "ضغطٍ سياسي" بل عن مسارٍ تحويلي يعيد تعريف العلاقة بين أوروبا والكيان المؤقت.

الانعكاسات الكمية للأزمة مدمّرة: خسائر بمئات ملايين الدولارات، عقود ملغاة تتجاوز نصف الصادرات، تراجع في التصنيف الائتماني، واحتمال انكماشٍ بنحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تقديرات خبراء إسرائيليين. ومع تنامي المقاطعة، ارتفعت تكاليف الشحن والتأمين، ورفض عمال المرافئ في أكثر من دولة التعامل مع البضائع الإسرائيلية. حتى صناديق استثمار كبرى، كالصندوق السيادي النرويجي، بدأت بيع أصولها في الشركات الإسرائيلية، ما يُنذر بانسحابٍ مالي جماعي سيعمّق الاختناق.

ردّ الحكومة جاء على الطريقة المعهودة: إنكارٌ للواقع وتغليف الأزمة بخطاب "الاعتماد على الذات". دعا نتنياهو إلى تقليص الارتباط بالأسواق الخارجية، وتوسيع الإنتاج المحلي، وتطوير الصناعات العسكرية كأداة "للاكتفاء الاقتصادي"، وفتح شراكات بديلة في آسيا وأفريقيا. لكنها مقاربة أقرب إلى اقتصاد الطوارئ منها إلى رؤيةٍ قابلة للحياة. فإسرائيل دولة قائمة على التكنولوجيا العابرة للحدود والاستثمارات الغربية، وأي انسحابٍ من النظام العالمي يعني عزلها عن منابع القوة التي قامت عليها. لذلك، يرى اقتصاديون إسرائيليون أن ما يقترحه نتنياهو ليس حلاً بل "انتحارٌ اقتصادي" سيحوّل إسرائيل إلى "إسبرطة فقيرة"، وفق تعبير منتدى الأعمال الإسرائيلي.

في الداخل، تتصاعد الانتقادات بحدة. النقابات تحذّر من انهيار القدرة الشرائية، وأصوات داخل النخب الاقتصادية تتحدث عن "هاوية اجتماعية" تقود إليها سياسات الحرب. رجل الأعمال أفيغدور ليبرمان وصفها بـ"التحول إلى دولة من دول العالم الثالث"، بينما أشار محللون إلى أن خسارة السوق الأوروبية البالغة 14.8 مليار دولار ستصيب الصناعات العسكرية بالشلل. أما المجتمع، فبدأ يشعر بثقل العزلة عبر التضخم وارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات. ومع غياب أي رؤية سياسية لوقف الحرب أو ترميم الثقة، يترسخ الاعتقاد بأن إسرائيل دخلت مرحلة الركود المزمن.

في العمق، تكشف هذه الأزمة حدود المشروع الإسرائيلي نفسه: كيانٌ يعيش على القوة الخارجية لكنه يفقدها كلما أساء استخدامها. الاقتصاد الذي ازدهر بفضل الارتباط بالغرب، يُعاقَب اليوم بالمنظومة ذاتها التي صنعته، بعدما تجاوز الخطوط الأخلاقية والسياسية في غزة. وهكذا، تتحول العزلة الاقتصادية إلى مرآةٍ للعزلة السياسية، وتُختزل معادلة الوجود الإسرائيلي في سؤالٍ واحد: هل يستطيع كيانٌ أُقيم على الحرب أن يعيش دونها؟

الجواب يظهر في الأرقام وفي المواقف الدولية التي تتساقط تباعًا. إسرائيل تقف الآن عند مفترقٍ تاريخي؛ فإما أن تعيد النظر في بنيتها العدوانية وتنخرط في نظامٍ عالمي أكثر التزامًا بالقانون، أو تستمر في طريق يقودها إلى عزلة شاملة وانهيار بطيء في شرعيتها واقتصادها ومجتمعها. فالحرب لم تعد مجرد جبهة عسكرية في غزة، بل مواجهة مفتوحة بين كيانٍ ينهك نفسه بالعنف وعالم بدأ يكتشف أن الردع الحقيقي لا يُقاس بالصواريخ، بل بالقدرة على البقاء مقبولًا في مجتمع الأمم.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور