ما وصلت اليه حال الكيان المؤقت، بعد عامين على اندلاع معركة طوفان الأقصى، من انحدار الى وضعية المنبوذ عالمياً، حتى من أقرب الدول الغربية لها، هو واحدة من أهم وأبرز النتائج التي يمكن تسجيلها، لصالح عملية المقاومة الفلسطينية في 07/10/2023، ولصالح المخططين والمنفّذين لها، ولصالح الشعب الفلسطيني الذي أظهر خلال عامين والصمود والروحية المقاومة، ما لم يشهد له العالم من مثيل.
أما ما استطاعت إسرائيل تحقيقه خلال هذه المدة، فلم يكن إلا المزيد من الجرائم ضد الإنسانية التي تُضاف الى سجلها منذ أكثر من 7 عقود. والمُختلف هذه المرّة، أنّ الجرائم الإسرائيلية لم يعد بالإمكان إخفاؤها كما حصل سابقاً، والمُختلف أيضاً أن بعض الشعوب والدول والهيئات الدولية حول العالم قد تركت جانب الحياد، الى الإدانة بالأفعال والخطوات. فيما أكثر العرب والمسلمين (دولاً وشعوباً)، لا يزالوا على حالهم من الخذلان إن لم يكن المشاركة في الجرائم الإسرائيلية.
وكل هذه النتائج والمتغيرات، تؤكّد ما قاله قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي في خطاباته ما بعد الطوفان، بأن " العالم المُقبل عالم فلسطين لا الكيان الصهيوني" وأنّ "كلّ جرائم وفجائع الكيان الصهيوني عبثيّة ولن تحقق أي نتيجة".
التحوّل الكبير
فما بدأ كحملة إسرائيل المعلنة تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، تطوّر بعد عامين إلى حرب إبادة بشرية، أعادت تشكيل النظرة العالمية لكيان الاحتلال الإسرائيلي. فإسرائيل الآن تواجه عزلة دولية متزايدة، وإدانة، وتدقيقاً أخلاقياً. لقد تحوّل وضعها بشكل جذري: من شريك رئيسي للغرب في غربي أسيا إلى كيان يراه الكثيرون الآن منبوذ عالمياً.
فما تسبّب به العدوان الإسرائيلي الأمريكي على قطاع غزة، من ارتقاء أكثر من 200 ألف شهيد وجريح من أهل غزة، أغلبهم من الأطفال والنساء والمدنيين، وحجم الدمار الذي تجاوز نسبة 92% من مساحة القطاع، وتآكل الصورة الإعلامية الدولية لإسرائيل وانهيار قوتها الناعمة، وإعادة ترتيب المواقف في الدبلوماسية العالمية، وصعود حركة تضامن عابرة للحدود الوطنية، كّل ذلك أعطى زخماً للقضية الفلسطينية سيكون له تداعياته الكبرى عليها في المرحلة القادمة حتماً.
ويكمن جوهر وضع إسرائيل كدولة منبوذة في حجم الكارثة الإنسانية الهائل الذي خلّفته حملتها العسكرية. أصبحت غزة، المحاصرة أصلًا منذ عام 2007، بؤرة دمار على نطاق لم تشهده منذ الحرب العالمية الثانية. بعد عامين من القصف المتواصل، دُمرت البنية التحتية المدنية في غزة تقريبًا. استُهدفت المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين والمساجد مرارًا وتكرارًا، مما أدى إلى اتهامات بالعقاب الجماعي المتعمد. ووثّقت منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ووكالات الأمم المتحدة، انتهاكات واسعة النطاق للقانون الدولي. تصف التقارير باستمرار أنماطًا من القصف العشوائي، واستخدام التجويع كسلاح حرب، والاستهداف الممنهج للصحفيين والطواقم الطبية وقوافل الإغاثة. وبحلول نهاية العام الثاني، قدرت الأمم المتحدة عدد الشهداء الفلسطينيين بعشرات الآلاف، وشكّلت النساء والأطفال الغالبية العظمى من الضحايا. لقد صدم الضحايا من المدنيين وتشريدهم الرأي العام العالمي. وامتلأت وسائل الإعلام الدولية بصور المقابر الجماعية والأطفال الجائعين والمستشفيات التي قُصفت، مما قوّض رواية إسرائيل عن "الاستهداف الدقيق" و"الدفاع عن النفس". وأصبحت الكارثة الإنسانية بمثابة لائحة اتهام أخلاقية حاسمة ضد إسرائيل، مما أدى إلى تآكل شرعيتها حتى بين مؤيديها التقليديين.
انهيار القوة الناعمة لإسرائيل
لعقود، استثمرت إسرائيل بكثافة في بناء صورة لنفسها، كمجتمع حديث ومبتكر وديمقراطي. وقد مكّنها هذا الخطاب من القوة الناعمة من تقديم سياساتها كضرورات "دفاعية"، مع إبراز وجه عالمي للعالم. لكن حرب غزة حطمت هذه الصورة.
فلم يعد الجمهور العالمي ينظر إلى إسرائيل كديمقراطية ليبرالية محاصرة، بل كقوة احتلال متورطة في عنف جماعي ضد شعب محاصر. وكشفت الحرب عن تناقضات ادعاء إسرائيل بدعم حقوق الإنسان، بينما تحرم ملايين الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها من هذه الحقوق. وسرّعت وسائل التواصل الاجتماعي هذا التحول: فبينما رددت وسائل الإعلام الغربية التقليدية في البداية المواقف الإسرائيلية، إلا أن تدفق مقاطع الفيديو والشهادات المباشرة من غزة جعل من المستحيل الحفاظ على خطاب مُنقّح.
وكانت النتيجة انهيار "مصداقية إسرائيل" ونسب التأييد لها، وهذا ما أظهرته استطلاعات الرأي في جميع أنحاء أوروبا وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من انخفاض حاد في نسب التأييد لها، في دول مثل أيرلندا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والبرازيل. وبات اسم إسرائيل مرتبطاً بمصطلحات الفصل العنصري والتطهير العرقي وجرائم الحرب. حتى في الولايات المتحدة، التي لطالما كانت حجر الأساس لشرعية إسرائيل الدولية، شهد الرأي العام تحولاً حاداً، لا سيما بين الشباب الأمريكي، الذين يتعاطفون بأغلبية ساحقة مع الفلسطينيين، والشعار الأبرز عند هؤلاء بات "الحرية لفلسطين – Free Palestine".
الإدانة الدولية والتحديات القانونية
وفي سياق متّصل أثار سلوك إسرائيل في غزة ردود فعل قانونية ودبلوماسية غير مسبوقة. ففي الأمم المتحدة، ورغم استخدام أمريكا المتكرر لحق النقض (الفيتو) لحمايتها من قرارات مجلس الأمن، أصدرت الجمعية العامة قرارات متعددة تطالب بوقف إطلاق النار، وبوصول المساعدات الإنسانية، والمساءلة. وبرزت عزلة إسرائيل بشكل صارخ عندما أظهرت الأصوات إجماعاً عالمياً ساحقاً ضد أفعالها، وغالباً ما كانت الولايات المتحدة وحفنة من الدول الصغيرة تقف إلى جانبها.
والأهم من ذلك، بدأت المؤسسات القانونية تعامل إسرائيل كموضوع للمساءلة الدولية بدلاً من اعتبارها معفاة. ففي عام 2024، رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية متهمةً إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة. وأصدرت محكمة العدل الدولية تدابير مؤقتة تأمر إسرائيل بمنع أعمال الإبادة الجماعية، وهو حكم تاريخي أضفى الشرعية على الادعاءات العالمية بارتكاب إسرائيل فظائع. وفي الوقت نفسه، شرعت المحكمة الجنائية الدولية في إجراء تحقيقات مع مسؤولين إسرائيليين، بمن فيهم كبار القادة العسكريين والسياسيين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وعززت هذه التحديات القانونية صورة إسرائيل كدولة منبوذة بوضعها في نفس فئة الأنظمة التي اتُهمت سابقًا بارتكاب جرائم دولية. وبالنسبة للعديد من دول الجنوب العالمي، أصبح إفلات إسرائيل من العقاب رمزًا لازدواجية المعايير في النظام الدولي.
تصدع الدعم الغربي
ولعلّ أبرز مؤشر على انحدار إسرائيل إلى وضعية المنبوذ هو التآكل التدريجي للدعم الغربي غير المشروط. فبينما ظلت أمريكا وألمانيا حليفتين مخلصتين لها، فإنهما واجهتا انقسامات داخلية وضغوطًا محلية غير مسبوقة.
ففي الولايات المتحدة، اندلعت احتجاجات حاشدة في الجامعات والمدن الكبرى وداخل النقابات العمالية، مطالبةً بإنهاء المساعدات العسكرية لإسرائيل. وواجه الحزب الديمقراطي، الذي كان موحدًا في دعمه، انقسامًا جيليًا وأيديولوجيًا، حيث دعا المشرّعون التقدميون علنًا إلى حظر الأسلحة وفرض عقوبات. وبدأت الدول الأوروبية، المتحالفة تقليديًا مع واشنطن، في الانشقاق وأبرزهم المملكة المتحدّة وفرنسا وغيرهم. واعترفت إسبانيا وأيرلندا بدولة فلسطين عام 2024، وحذت دول أخرى حذوها. وفرضت فرنسا وبلجيكا قيودًا جزئية على الأسلحة على إسرائيل، متهمتين إياها بانتهاكات القانون الإنساني.
أما في الجنوب العالمي فقد استعاد النضال الفلسطيني، الذي كان مهمشاً في السابق، مكانته المركزية كقضية أخلاقية وسياسية، توحّد دول وشعوب هذه المنطقة (ما عدا الدول العربية والإسلامية التابعة لأمريكا وإسرائيل).
تعاظم حركة المقاطعة للكيان في كافة المجالات
ومع تآكل الشرعية السياسية لإسرائيل، توسّعت الحركات الشعبية. واكتسبت حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، التي كانت مهمّشة في السابق، زخمًا في الجامعات والنقابات العمالية والكنائس والحكومات المحلية حول العالم. وواجهت الشركات الكبرى ضغوطًا لقطع علاقاتها مع الشركات الإسرائيلية المتواطئة في الاحتلال. وسحبت صناديق التقاعد في أوروبا وأمريكا الشمالية استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة التي تزود إسرائيل بالأسلحة.
وواجه قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل، الذي اعتمد طويلًا على الشراكات العالمية، مقاطعة من المؤسسات الأكاديمية والبحثية. وبالنسبة للعديد من المراقبين، ذكّرت هذه التطورات بمسار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث لعبت حملات المقاطعة المستمرة دورًا حاسمًا في تقويض قدرة النظام على الاستمرار.
لم تعد إسرائيل اليوم مجرد كيان احتلال فقط؛ بل بات يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها منبوذة - معزولة دبلوماسيًا، وملاحقة قانونيًا، ومُقاطعة اقتصاديًا، ومُدانة أخلاقيًا.
الكاتب: غرفة التحرير