في جنوب شرق آسيا، حيث تتقاطع الهويات الدينية مع المصالح الاقتصادية، لم تمرّ عملية طوفان الأقصى مرور الكرام. فقد أعادت تلك العملية إلى الواجهة سؤالاً قديماً عن حدود التضامن الإسلامي وحدود البراغماتية السياسية في عالمٍ تتقدّم فيه المصالح على المبادئ. بين تعاطف الشعوب وغموض الحكومات، تباينت المواقف داخل رابطة آسيان بين من رأى في ما حدث انتفاضةً مشروعة ضد الاحتلال، ومن تعامل معه كأزمة أمنية يجب احتواؤها. وهكذا كشفت الحرب في غزة ليس فقط عن عمق الانقسام الدولي، بل عن الوجه الحقيقي للسياسات الآسيوية التي توازن بين الإيمان والمصلحة، وبين الضمير والواقعية الباردة.
تتناول هذه الدراسة التي أعدّها الدكتور وليد عبد الحي بعنوان "الآسيان وطوفان الأقصى" الموقف الآسيوي من عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، مركزةً على دول رابطة آسيان (ASEAN)، أي تكتل دول جنوب شرق آسيا. تسعى الدراسة إلى تحليل المواقف السياسية والإعلامية والاقتصادية لهذه الدول تجاه العملية وتداعياتها، ومدى تأثرها بعوامل الدين، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، والمصالح المشتركة مع القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة والصين.
يبدأ التحليل من فرضية أن دول آسيان لا تتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية مركزية في سياساتها الخارجية، بل ضمن إطار أوسع من البراغماتية والمصالح المتبادلة. ومع ذلك، فإنّ الموقف من عملية طوفان الأقصى أظهر تبايناً واضحاً بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية داخل الرابطة، وبين الدول الأقرب إلى واشنطن وتلك التي تميل إلى بكين.
ففي الدول ذات الأغلبية المسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا وبروناي، كان الموقف داعماً صريحاً للفلسطينيين ورافضاً للعدوان الإسرائيلي على غزة. عبّر المسؤولون في جاكرتا وكوالالمبور عن تضامنهم الكامل مع الشعب الفلسطيني، واعتبروا ما جرى نتيجة طبيعية لاستمرار الاحتلال وانسداد الأفق السياسي. كما شهدت هذه الدول مظاهرات شعبية ضخمة تندّد بإسرائيل وتطالب بقطع العلاقات مع القوى الداعمة لها، خصوصاً الولايات المتحدة. أما بروناي، فرغم محدودية تأثيرها الإقليمي، فقد اتخذت موقفاً متسقاً مع هويتها الإسلامية، داعيةً إلى وقف فوري لإطلاق النار وإدانة العدوان.
في المقابل، أظهرت الدول غير الإسلامية مثل سنغافورة وتايلاند والفلبين وفيتنام مواقف أكثر تحفظاً، ركّزت على الدعوة إلى التهدئة وحماية المدنيين من الجانبين، مع حرصها على عدم توجيه انتقاد مباشر لإسرائيل. ويُعزى ذلك إلى طبيعة علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، وإلى رؤيتها العملية التي تعتبر الاستقرار الإقليمي أولوية على حساب القضايا السياسية البعيدة. وقد برزت تايلاند في موقف خاص بعد مقتل وأسر عدد من رعاياها العاملين في المزارع الإسرائيلية، ما جعلها تركّز في خطابها على إنقاذ مواطنيها لا على جوهر الصراع.
أما سنغافورة، فقد تبنّت خطاباً "حيادياً" يدعو إلى التهدئة و"الالتزام بالقانون الدولي"، لكنها رفضت إدانة إسرائيل، وأكّدت على "حقها في الدفاع عن النفس"، وهو الموقف الأقرب إلى الموقف الأميركي. كذلك، سعت الفلبين إلى تجنّب الدخول في السجالات السياسية، مؤكدةً على ضرورة "حماية المدنيين"، دون أي ذكر للسياق التاريخي للاحتلال أو مسؤولية إسرائيل عن اندلاع المواجهة.
في الدول ذات الثقل الاقتصادي والسياسي مثل إندونيسيا وماليزيا، ظهر البعد الديني واضحاً في تشكيل الموقف العام. فالحكومتان تنظران إلى القضية الفلسطينية بوصفها قضية هوية إسلامية، وليست مجرد نزاع جغرافي. أما في الدول الأخرى، فالبعد الاقتصادي هو الذي يحكم السلوك السياسي، إذ تعتمد على الاستثمارات الغربية أو التعاون التكنولوجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يجعل مواقفها أكثر تحفظاً أو حتى متعاطفة جزئياً مع الخطاب الإسرائيلي.
تُبرز الدراسة أنّ الموقف الجماعي لـ"آسيان" لم يكن موحداً، إذ اكتفت الرابطة بإصدار بيانٍ دبلوماسي مقتضب يدعو إلى "ضبط النفس ووقف العنف"، دون الإشارة إلى جذور الصراع أو تحميل أي طرف المسؤولية. ويعود ذلك إلى طبيعة الرابطة التي لا تتبنى مواقف سياسية حادة، بل تسعى إلى الحفاظ على توازن داخلي بين أعضائها. ومع ذلك، فإنّ التباين في المواقف الوطنية عكس حجم التناقض بين الهوية الإسلامية والقيم البراغماتية التي تحكم سياسات الدول غير الإسلامية في المنطقة.
من الناحية الإعلامية، لوحظ أنّ التغطية في الصحف والقنوات الآسيوية انقسمت على أساس الهوية الدينية للدولة. ففي إندونيسيا وماليزيا، استخدم الإعلام لغة إنسانية تصف ما يحدث في غزة بأنه "عدوان" و"إبادة جماعية"، فيما استخدمت وسائل الإعلام في سنغافورة والفلبين مصطلحات محايدة من قبيل "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، متجنّبةً أي توصيف قانوني أو أخلاقي.
أما على المستوى الاقتصادي، فلم تُسجّل مواقف عقابية أو مقاطعة اقتصادية لإسرائيل من أي دولة في آسيان، باستثناء الأصوات الشعبية في ماليزيا التي دعت لمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل. ويُفسَّر ذلك بأن معظم دول الرابطة تربطها مصالح تجارية واستثمارية مع الولايات المتحدة والغرب، ما يجعلها حذرة في اتخاذ مواقف يمكن أن تؤثر على تلك العلاقات.
وتخلص الدراسة إلى أنّ الموقف الآسيوي، رغم تعاطفه الإنساني في بعض الدول، بقي محكوماً بعقل المصالح لا بعاطفة الهوية. فحتى الدول الإسلامية التي عبّرت عن تضامنها، لم تتجاوز حدود الخطاب السياسي والإدانة اللفظية. في المقابل، تمسّكت الدول الأخرى بالحياد، محافظةً على صورة "الدبلوماسية الهادئة" التي تميّز آسيان. وهكذا، فإن عملية طوفان الأقصى كشفت الحدود الواقعية للسياسة الآسيوية تجاه القضية الفلسطينية، وأظهرت أن الرابطة لا تملك موقفاً جماعياً متماسكاً أمام القضايا الدولية الكبرى، بل تتصرف كل دولة وفق توازناتها الخاصة.
وفي المحصلة، يمكن القول إن آسيان تعاملت مع طوفان الأقصى كحدث إقليمي لا كتحوّل استراتيجي عالمي، ما يعكس محدودية اهتمامها بالقضية الفلسطينية، مقابل تركيزها على قضايا الأمن البحري والاقتصاد الإقليمي والتنافس الأميركي الصيني. ومع أنّ الشعوب المسلمة في جنوب شرق آسيا عبّرت عن تعاطفها القوي مع الفلسطينيين، فإنّ الحكومات ظلّت رهينة حسابات الربح والخسارة، لتبقى المواقف بين الإيمان والبراغماتية، وبين الهوية والمصلحة.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ. د. وليد عبد الحي