في اللحظة التي كانت بعض الدوائر السياسية والإعلامية في "إسرائيل" والغرب تروّج لإمكانية عودة بنيامين نتنياهو إلى طاولة المفاوضات وقبول صفقة جزئية تتعلق بالأسرى، خرج "رئيس الوزراء الإسرائيلي" ليقطع كل التوقعات، معلنًا بوضوح أن خياره هو احتلال غزة بالكامل، وأن أي تسوية لن تُقبل إلا إذا كانت شاملة، وفق شروط تل أبيب. بهذا الموقف، وضع نتنياهو حدًا للرهانات على الضغوط الداخلية والخارجية، ورسّخ أن مشروعه يقوم على فرض إرادة عسكرية مطلقة، ولو على جثث عشرات آلاف المدنيين.
هذا الإعلان ليس مفاجئًا بقدر ما هو تعبير عن عقيدة راسخة تحكم سلوك "المؤسسة الإسرائيلية" منذ تأسيسها: الحرب أولًا، والمفاوضات غطاء تكتيكي عند الحاجة. فنتنياهو لا يرى في غزة ساحة مواجهة عسكرية محدودة، بل عقدة استراتيجية يجب كسرها نهائيًا، لأن وجود حركة مقاومة مسلحة ومتماسكة في القطاع يتحدى جوهر المشروع الصهيوني القائم على إخضاع الأرض والإنسان.
الحرب كخيار استراتيجي لا رجعة فيه
منذ انطلاق عملية "عربات جدعون 1"، راهن نتنياهو على أن الدمار الهائل والقتل الجماعي وتجويع المدنيين ودفعهم إلى النزوح جنوبًا سيؤدي إلى تفكيك البنية السياسية والاجتماعية لحركة حماس. غير أن النتائج جاءت معاكسة: المقاومة تكيفت مع المتغيرات الميدانية، استمرت الكمائن والضربات النوعية، فيما بقيت القيادة السياسية والعسكرية للحركة صامدة.
أمام هذا الواقع، وجد نتنياهو نفسه مضطرًا إلى إطلاق مرحلة جديدة تحت مسمى "عربات جدعون 2"، معتبرًا أن إخضاع غزة هو "الحلقة الأخيرة" التي لا يمكن الاستغناء عنها. فهو يرى أن ما لم يتحقق في الجولة الأولى سيتحقق بالتصعيد الأكبر في الجولة الثانية، متجاهلًا أن كل تجربة عسكرية سابقة في غزة ولبنان كشفت حدود "القوة الإسرائيلية"، وأن "النصر المطلق" الذي يتحدث عنه يبقى وهمًا غير قابل للتحقق.
المفاوضات كأداة للتضليل
رغم الضجيج الإعلامي حول "صفقة الأسرى"، تعامل نتنياهو مع المفاوضات باعتبارها مجرد أداة تكتيكية تخدم هدفًا وحيدًا: كسب الوقت، وتخدير الرأي العام "الإسرائيلي" والدولي، وتوفير غطاء لحرب الإبادة المستمرة. فالصفقة الجزئية، بما تتضمنه من مكاسب إنسانية وسياسية لحماس، تعني كسر معادلة الإخضاع، وهو ما لا يريده نتنياهو.
إن التمسك بما يسميه "الصفقة الشاملة" ليس إلا تعبيرًا عن شروط استسلام غير قابلة للتحقق: نزع سلاح المقاومة، السيطرة الأمنية الكاملة على القطاع، إقامة حكم بديل يخضع "لإسرائيل"، وإعادة "الأسرى الإسرائيليين" دون مقابل سياسي أو عسكري. هذه الشروط تكشف أن تل أبيب لا تفاوض على تسوية، بل على إذعان كامل، وهو ما يجعل المفاوضات مجرد ستار لتمديد الحرب لا أكثر.
الدعم الأميركي والبعد الأيديولوجي
تمضي حكومة نتنياهو في هذا المسار وهي مطمئنة إلى الغطاء الأميركي، خاصة في ظل إدارة دونالد ترامب التي تعطي الأولوية لدعم التيارات اليمينية المتطرفة في "إسرائيل". هذا الدعم يحرر نتنياهو من أي ضغط حقيقي، ويجعله يتعامل مع المجتمع الدولي كمتفرج عاجز، بينما تتحول غزة إلى مختبر يومي للعقيدة العسكرية الصهيونية القائمة على التدمير الشامل.
الأمر هنا لا يتوقف عند الحسابات العسكرية المباشرة، بل يرتبط بـ"نفسية" نتنياهو ذاته، الذي يعتقد أن معركة غزة تختلف جذريًا عن حروب "إسرائيل" مع لبنان أو سوريا أو إيران. فهذه معركة وجودية في نظره، "مسألة حياة أو موت"، ولذلك لا يتردد في تجاهل الاحتجاجات "الشعبية الإسرائيلية"، ولا في رفض مطالب النخب العسكرية والسياسية بوقف الحرب. ما يهمه هو ترسيخ صورة "القائد التاريخي" الذي يقود "إسرائيل" إلى "النصر المطلق"، حتى لو كان الثمن تفكك "المجتمع الإسرائيلي" ذاته.
الفشل كخيار مرجّح
ورغم كل هذا الإصرار، فإن التقديرات "العسكرية الإسرائيلية" السرية المسربة التي تناقلها الإعلام الإسرائيلي، تؤكد أن خطة احتلال غزة محكوم عليها بالفشل. "عربات جدعون 2" بأنها أقرب إلى "خطة الجنرالات" التي فشلت في السيطرة على شمال غزة، أكثر مما هي امتداد لـ"جدعون 1". والسبب يعود إلى عدم قدرة "الجيش الإسرائيلي" على مواكبة تكتيكات المقاومة المتجددة، وإلى التناقض بين الأهداف السياسية (إخضاع حماس) والعملياتية (استعادة الأسرى).
إن ورقة الأسرى بيد حماس تظل عاملًا جوهريًا يقيد حركة نتنياهو. ففي الوقت الذي يصر فيه على أن حياة الأسرى لا قيمة لها أمام الأهداف الأيديولوجية، يبقى "الشارع الإسرائيلي" أكثر واقعية، مدركًا أن تجاهل ملف الأسرى يفاقم مأزق الحكومة ويهدد شرعيتها الداخلية. هنا يظهر التناقض البنيوي بين طموح القيادة السياسية وإمكانات الدولة على تحمله.
غزة كمرآة لانهيار المشروع
ما يميز معركة غزة اليوم أنها لم تعد مجرد مواجهة محلية بين جيش احتلال ومقاومة محاصرة، بل تحولت إلى مرآة تعكس أزمة أعمق: أزمة المشروع الصهيوني ذاته. فكلما صعّدت "إسرائيل" حربها على غزة، كشفت عجزها عن تحقيق الحسم، وكلما ادّعت السعي إلى "النصر المطلق"، انكشف أمام العالم أنها تمارس سياسة إبادة جماعية تستند إلى القوة العارية لا إلى أي شرعية سياسية أو أخلاقية.
إن تمسك نتنياهو بخيار الاحتلال ورفضه الصفقة الجزئية لا يعني أنه واثق من تحقيق النصر، بل لأنه لا يملك بديلًا آخر. أي تراجع الآن سيُفسر كهزيمة استراتيجية، وأي قبول بشروط جزئية سيُظهر حماس كطرف متكافئ، وهو ما لا يستطيع تحمله سياسيًا. لذلك يواصل الهروب إلى الأمام، مدفوعًا بالوهم الأيديولوجي والدعم الأميركي، بينما تتعمق أزمته الداخلية وتزداد المقاومة الفلسطينية صلابة.
في نهاية المطاف، يصرّ نتنياهو على احتلال غزة، مؤجلًا صفقة الأسرى، ومواصلًا المجازر بحق المدنيين، لأنه يرى في ذلك السبيل الوحيد لترسيخ سلطته وتثبيت عقيدته السياسية. لكن الواقع الميداني والسياسي معًا يشيران إلى أن هذه الاستراتيجية لا تقود إلى نصر، بل إلى مأزق أكبر. فغزة ليست مجرد "ملف أمني" يمكن طيّه بالاجتياح، بل هي قضية شعب يقاوم، وميدان يفضح محدودية "القوة الإسرائيلية". ولذلك، قد يكون الفشل المدوّي هو النتيجة الحقيقية لـ"عربات جدعون 2"، تمامًا كما كان في كل العمليات والحروب السابقة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]