تُعدّ مفارقة "التكلفة الغارقة" (Sunk Cost Fallacy)، من أبرز التحيزات المعرفية التي تؤثّر على القرارات السياسية والعسكرية، حيث يستمر الفاعل في استثمار الموارد في مسارات خاسرة أو مكلفة، ليس بناءً على تقييم موضوعي للمعطيات والعوائد المستقبلية، بل بدافع تبرير ما تمّ إنفاقه سابقًا. هذا النمط من التفكير قد يؤدي إلى إطالة أمد الصراعات أو التورط في مشاريع غير مجدية، بهدف الحفاظ على المصداقية السياسية أو تفادي الإقرار بالفشل أمام الرأي العام، رغم أن التحليل العقلاني قد يقتضي التوقف أو إعادة توجيه الموارد نحو خيارات بديلة أكثر فاعلية.
وتنطبق هذه المفارقة بشكل جليّ على سلوك الكيان المؤقت في حربه على غزة، حيث يستمر في التصعيد العسكري والسياسي رغم إدراكه لتضاؤل العوائد وتصاعد التكاليف الاستراتيجية. فبدلًا من إعادة تقييم الأهداف بناءً على الوقائع المستجدة، يندفع الكيان نحو إطالة أمد الحرب ما يضعه في مأزق تتفاقم فيه الخسائر كلما طال الصراع، دون ضمان تحقيق إنجاز فعلي بناءً على الأهداف التي حدّدها.
وفي هذه الورقة، المرفقة أدناه، عرض لأبرز مظاهر المفارقة في غزة بناءً على مجموعة العناوين المتعلقة بمظاهرها، عواملها وتداعياتها.
يناقش المقال كيف وقع الكيان المؤقت في فخ "مفارقة التكلفة الغارقة" في حربه على غزة، أي الاستمرار في استثمار الموارد والدماء رغم غياب الإنجاز الاستراتيجي، بهدف تبرير الخسائر السابقة وتجنّب الاعتراف بالفشل.
فبعد أكثر من عامين من الحرب، لم تتحقق الأهداف المعلنة مثل تدمير حماس أو استعادة الأسرى، ومع ذلك تواصل القيادة السياسية والعسكرية التصعيد حفاظًا على صورة التفوق ومنع ظهور العجز.
وتتعدد عوامل استمرار هذا السلوك بين أمنية (التهديد المستمر من غزة، غياب بديل لحماس، الرغبة في السيطرة الكاملة)، وسياسية ونفسية (ضغط الرأي العام، الخوف من الانهيار السياسي، تصوير الحرب كتهديد وجودي، الخسائر البشرية والسياسية، فخ الاستنزاف، الدوافع الشخصية لنتنياهو)، وعسكرية (تعقيد الجغرافيا السكانية لغزة، تكتيكات حماس غير التقليدية، الضغوط النفسية والمؤسسية على الجيش).
وخطابات نتنياهو تعكس هذه المفارقة من خلال تكرار شعارات النصر الكامل، ورفض أي تسوية أو وقف إطلاق نار، واستخدام عاطفة "التضحيات" لتبرير استمرار الحرب، وربط مصير الكيان بالحسم في غزة.
لكن على المستوى الاستراتيجي، بقيت الأهداف بعيدة المنال، وتفاقمت الأزمات الداخلية، والانقسامات السياسية، وتراجعت صورة الكيان خارجيًا تحت ضغط الانتهاكات الموثقة والانتقادات الدولية.
النتيجة أن استمرار الحرب بات هدفًا بحد ذاته، لا وسيلة لتحقيق غاية واضحة، ما يكرّس دائرة مفرغة من الخسائر المتراكمة، ويُضعف قدرة الكيان على ترميم ردعه أو تحقيق استقرار مستقبلي، لتتحول غزة إلى مأزق طويل الأمد يجمع بين الاستنزاف الميداني والانهيار المعنوي والسياسي.
وتكشف الحالة التي وقع فيها الكيان المؤقت في حرب غزة عن مدى خطورة الوقوع في فخ مفارقة "التكلفة الغارقة"، حيث تُواصل القيادة اتّخاذ قرارات غير عقلانية بدافع الخوف من الاعتراف بالخسارة وخدمةً لمصالح نتنياهو الشخصية وتلبية لطموحات حلفائه المتطرفين، فبات استمرار الحرب غير مرتبط بالأهداف الفعلية، بل بمحاولة إعطاء معنى لما تمّ إنفاقه من موارد. ومع كل يوم جديد، تتراكم الخسائر وتتعمّق الأزمة، ما يُضعف قدرة الكيان على ترميم ذاته أو بناء ردع فعّال في المستقبل، وهو بمثابة فشل استراتيجي سيكون له انعكاساته على الواقع الصهيوني في الأشهر والسنوات المقبلة. وعليه، فإن الكيان المؤقت بات عالقًا في غزة بين رغبته في الحسم وبين عدم قدرته على تحقيق ذلك دون أثمان كارثية، فكلّما طال أمد الحرب، تعمّقت الكلفة النفسية والسياسية والعسكرية، ما يرسّخ مفارقة الاستنزاف ويمنع الخروج.
لتحميل الدراسة من هنا
الكاتب: نيفين قطيش