منذ اندلاع حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم تشهد الساحة السياسية والأمنية في الداخل الإسرائيلي معارضة لخطة حكومية بحجم المعارضة التي تواجهها خطة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لاحتلال غزة. هذه الخطة، التي أقرّها المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية "الكابينيت" فجر الثامن من آب/أغسطس 2025، وُوجهت برفض صريح من جانب جميع قادة المنظومة الأمنية، وفي مقدمتهم رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال إيال زامير، وهو موقف غير مسبوق في مسار الحرب المستمرة منذ أكثر من عام ونصف.
صحيفة يسرائيل هيوم، نقلاً عن محللها العسكري يوآف ليمور، أشارت إلى أن الجهة الوحيدة التي لم يكن لرأيها أي تأثير في قرار "الكابينيت" هي القيادات الأمنية نفسها، التي عارضت الخطة بالإجماع. المفارقة أن هذه القيادات نالت هذه المرة دعماً غير مألوف من رئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، الذي خرج عن مسار الدعم المطلق لنتنياهو في خطوة نادرة.
المعارضون، من محللين عسكريين وسياسيين وقادة سابقين في الجيش، أجمعوا على أن احتلال غزة يحمل تبعات سياسية وأمنية واقتصادية خطيرة على إسرائيل. فمن الناحية الأمنية، حذروا من زيادة الأعباء على الجيش وعلى قوات الاحتياط، ومن احتمال ارتفاع أعداد القتلى في صفوف الجنود. أما من الناحية السياسية، فقد نبهوا إلى عزلة دولية محتملة وتدهور صورة إسرائيل. اقتصادياً، فإن كلفة السيطرة المباشرة على غزة ستكون باهظة، مع استنزاف طويل الأمد للموارد.
الجنرال زامير وصف الخطة بأنها "فخ مميت"، ليس فقط للأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، بل أيضاً لعدد كبير من الجنود، ولآلاف المدنيين الفلسطينيين، وحتى لإسرائيل نفسها. وتلتقي هذه الرؤية مع ما كتبه ميخائيل هرتسوغ، السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، في صحيفة يديعوت أحرونوت، حيث شبّه الوضع الحالي بـ"متاهة غزة" التي تغرق فيها إسرائيل من دون نية واضحة لإنهاء الحرب.
موقف زامير أثار ردود فعل حادة. فالمقربون من نتنياهو صوّروه كمتمرد يحاول تنفيذ انقلاب عسكري، في مقارنة مع جمهوريات الموز بأميركا الوسطى في سبعينيات القرن العشرين. صحيفة هآرتس خصصت افتتاحية بعنوان "العدو الجديد: إيال زامير"، رأت فيها أن نتنياهو وشريكيه بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير لا يعتبرون رئيس الأركان قائداً مستقلاً، بل أداة تنفيذية تعمل بتوجيههم. ووفق الصحيفة، فإنهم يتوقعون منه تقديم "صورة معدلة بالفوتوشوب" عن الواقع، تتوافق مع روايتهم السياسية، وإلا فعليه أن يغادر منصبه.
في التحليلات الإسرائيلية، برز تقييم يرى أن موقف زامير يعكس إدراكه لوجود قيادة سياسية هدفها الأول استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية. وأكد عضو الكنيست السابق عوفر شيلح، وهو رئيس برنامج الأمن في "معهد أبحاث الأمن القومي" بجامعة تل أبيب، أن هذه الحكومة تضم عدداً غير مسبوق من الوزراء الذين يجمعون بين جهل سياسي فادح وخطاب ديني مسياني.
الخلاف امتد إلى النقاش حول الخطوة التي ينبغي أن يتخذها زامير. بعض الشخصيات، مثل اللواء في الاحتياط إسحق بريك، دعته إلى الاستقالة فوراً، معتبرة أن استمراره في منصبه يضعه في موقع شريك ضمني للسياسات التي يعارضها. في المقابل، شخصيات أخرى، مثل اللواء في الاحتياط نمرود شيفر، رأت أن عليه البقاء وتحمل مسؤولية التصدي لخطط الحكومة التي قد تنطوي على الترحيل أو الإبادة الجماعية للمدنيين. شيفر شدد على أن هذه "لحظة الحقيقة" بالنسبة لرئيس الأركان، وأن عليه أن يقف كـ"جدار حصين" في وجه قيادة سياسية متطرفة فقدت بوصلتها.
الأكاديمي ياغيل ليفي ذهب أبعد، مؤكداً أن واجب رئيس الأركان، في ظل الظروف الراهنة، هو التعبير العلني عن رفضه لخطوات الحكومة، خاصة إذا دفعت الجيش إلى ارتكاب جرائم حرب تهدد صورة إسرائيل وهويتها، وتنذر بتمرد واسع وتدهور في الجهوزية العسكرية وسقوط أعداد كبيرة من القتلى. وأشار ليفي إلى أن استمرار الحرب بلا جدوى استراتيجية، وتراجع التأييد الشعبي لها، والشكوك المبررة بأنها تخدم بقاء الحكومة، كلها عوامل تفرض رفع الصوت.
ليفـي حذر أيضاً من أن صمت رئيس الأركان إزاء هذه التطورات هو "موقف سياسي" يمنح شرعية لسياسات الحكومة. هذا الرأي يلتقي مع ما طرحه عالم الاجتماع يهودا شنهاف-شهرباني، الذي اعتبر أن من يراقبون ما يجري في غزة من دون موقف علني هم شركاء سلبيون في الجرائم الجارية، من تجويع منظم وتطهير عرقي ونزع إنسانية الفلسطينيين. ولفت إلى أن الخطاب الإسرائيلي حول "التسوية" و"الحسم" و"الاحتلال" يتبنى لغة مموهة ظاهرها نظيف، لكنها محمّلة بالرموز التي تبرر العنف.
على مستوى الرأي العام الإسرائيلي، يشارك بعض النشطاء في تظاهرات تطالب بوقف الحرب حفاظاً على حياة الأسرى الإسرائيليين، لكن قيمة حياة الفلسطينيين الذين يواجهون الإبادة تبقى في أسفل سلم أولوياتهم، إن لم تكن غائبة تماماً. وهكذا، تتقاطع مواقف زامير ومعارضيه في المؤسسة الأمنية مع شريحة محدودة من المجتمع المدني، بينما تواصل الحكومة الإسرائيلية المضي في سياساتها، متجاهلة التحذيرات من أن احتلال غزة قد يتحول إلى كارثة شاملة تمس أمن إسرائيل ومستقبلها.
الكاتب: غرفة التحرير