منذ عقود طويلة تتعامل "إسرائيل" مع محيطها العربي باعتباره تهديداً عسكرياً يمكن التحكم فيه بالقوة الخشنة والتفوق التكنولوجي. لكن في غزة تحديداً، يواجه المشروع الاستيطاني تحدياً مختلفاً: تحدياً ديموغرافياً – سياسياً – نفسياً، يكاد يضع "الدولة العبرية" في مواجهة حدّها الوجودي. فما تعلنه حكومة نتنياهو اليوم من خطة للسيطرة على غزة عبر أربع مراحل عسكرية، ليس مجرد تحرك ميداني، بل محاولة لتأجيل مواجهة حتمية مع عنصرين لا يمكن القضاء عليهما بالقصف أو بالحصار: المجتمع الفلسطيني في غزة، واستمرارية المقاومة المسلحة.
الحرب الديموغرافية
إذا كان القرن العشرون قد عرف "الحروب الإيديولوجية" بين الشيوعية والرأسمالية، فإن القرن الحادي والعشرين يعرف في فلسطين شكلاً آخر من الصراع، هو الصراع الديموغرافي.
غزة ليست مدينة عادية يمكن اقتحامها بجيش مدرع ثم إعادة هندستها كما تفعل القوى الاستعمارية عادة. إنها منطقة صغيرة محاصرة، يعيش فيها أكثر من مليوني نسمة بكثافة سكانية من بين الأعلى في العالم، ونسبة مرتفعة جداً من الشباب دون الثلاثين. هذه التركيبة تجعل المجتمع هناك قابلاً لتجديد نفسه سياسياً ومقاتلاً باستمرار. فحتى لو فقدت المقاومة آلافاً من مقاتليها، فإن البنية السكانية تولّد غيرهم في كل جيل.
الخطأ الاستراتيجي الذي تقع فيه "إسرائيل" هو اعتقادها أن قتل عشرات الآلاف أو تهجير مئات الآلاف يمكن أن يغيّر المعادلة الديموغرافية. لكن علم الاجتماع السياسي يعلّمنا أن النزوح القسري لا يزيل الهويات، بل يعمّقها. وعليه، فإن كل عملية قصف أو تهجير تخلق جيلاً جديداً مشبعاً بالذاكرة والانتقام. هنا يكمن البعد "الوجودي": "فإسرائيل" دولة صغيرة سكانياً، ولا تملك قدرة تعويض بشري لانهائية، بينما غزة هي خزان سكاني مفتوح رغم الحصار.
المقاومة كمنظومة اجتماعية
يخطئ من يظن أن المقاومة الفلسطينية هي مجرد جناح عسكري يمكن تفكيكه بالعمليات الخاصة. على العكس، فهي منظومة اجتماعية – ثقافية متغلغلة في النسيج المدني. فالمقاتل الغزّي ليس جندياً محترفاً في ثكنة، بل ابن حيّ وسوق ومدرسة. لذلك فإن إسقاط بضع بنايات أو قتل بعض القادة لا يوقف هذه المنظومة. إنها تتشظى ثم تعود للتجميع، وفق منطق شبكي لا مركزي يشبه إلى حد كبير أشكال المقاومة التي واجهت القوى الاستعمارية في الجزائر أو فيتنام.
هنا يصبح تفكير نتنياهو العسكري محصوراً في منطق الجيوش التقليدية، بينما الواقع الميداني يفرض حرب عصابات طويلة الأمد، حيث يكون كل شارع فخاً، وكل مبنى موقعاً نارياً، وكل نفق خط إمداد خلف خطوط العدو. هذا النوع من الصراع لا يُحسم بتفوّق جوي أو بتقنيات مراقبة، بل يُستنزف فيه الغازي حتى الإرهاق السياسي والاقتصادي.
مقامرة استراتيجية
ما الذي يدفع نتنياهو إذن إلى خوض هذه المغامرة رغم معرفته بصعوبتها؟ الجواب يكمن في السياسة الداخلية "الإسرائيلية". فالائتلاف اليميني الحاكم يعيش أزمة شرعية بعد الفشل في استعادة الأسرى ووقف صواريخ المقاومة، وهو بحاجة إلى وهم "العملية الحاسمة" لإعادة تثبيت نفسه. لكن هذه "الحسمية" ليست سوى قناع يخفي عجزاً بنيوياً: "إسرائيل" لا تملك تعريفاً واضحاً للنصر. فحتى لو سيطرت دباباتها على مدينة غزة، فماذا بعد؟ هل ستبقى فيها سنوات تحت تهديد الكمائن والأنفاق؟ هل ستدير مليوني نسمة بالقوة المباشرة؟
في علم الاجتماع التاريخي، الدولة التي تدخل في احتلال مباشر طويل لمجتمع مقاوم تفقد تدريجياً قدرتها على السيطرة على نفسها. وهذا بالضبط ما حدث مع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان ومع الولايات المتحدة في العراق. فالاحتلال يصبح مرادفاً للنزيف الداخلي: استنزاف مالي، استنزاف بشري، وتآكل الشرعية أمام العالم وأمام مواطنيها.
البعد النفسي والرمزي
"إسرائيل" كيان تأسس على فكرة الردع المطلق: أن تكون قوية بما يكفي لإقناع خصومها باستحالة هزيمتها. لكن حرب غزة الممتدة منذ أكثر من ٢٢ شهراً كسرت هذه الصورة. فقد أظهرت المقاومة قدرة على الصمود رغم التفوق الكاسح للعدو. هذا الصمود وحده – بصرف النظر عن النتائج العسكرية الدقيقة – يُعدّ هزيمة استراتيجية لأسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
ومع كل "جندي إسرائيلي" يسقط في كمين، ومع كل دبابة تحترق بصاروخ مضاد للدروع، تتآكل صورة الردع التي بُنيت عليها شرعية "الدولة العبرية". ومن هنا تتحوّل العملية إلى مقامرة: فنجاحها الجزئي لا يعني شيئاً، أما فشلها فسيكشف عجزاً وجودياً لا يمكن إخفاؤه.
مأزق المستقبل
من منظور ديموغرافي بحت، حتى لو نجحت "إسرائيل" في تهجير نصف سكان غزة جنوباً أو خارج القطاع، فإن المشكلة لا تزول. فالفلسطينيون سيظلون يتكاثرون في الداخل والخارج، حاملين هويتهم السياسية ومطلبهم التاريخي. بينما "المجتمع الإسرائيلي" نفسه يعاني من شيخوخة ديموغرافية نسبية، ومن انقسام داخلي متفاقم بين متدينين وعلمانيين، وبين يهود شرقيين وغربيين.
إن محاولة احتلال غزة بالكامل هي إذاً مقامرة وجودية: فإما أن تحقق إسرائيل نصراً ساحقاً مستحيلاً في شروط الحرب غير المتماثلة، وإما أن تغرق في مستنقع يسرّع تآكل مشروعها القومي. والمفارقة أن المقاومة ليست مطالبة بالنصر العسكري النهائي، بل فقط بجعل الاحتلال مكلفاً وغير محتمل. وهذا بالضبط ما يفعله مقاتلو غزة اليوم.
حين ننظر إلى المشهد من منظور علم الاجتماع التاريخي، ندرك أن ما يجري ليس معركة عسكرية فحسب، بل صراع بين مشروع استعماري محدود السكان ومجتمع محاصر لكنه متجدد ديموغرافياً ومقاوم ثقافياً. لذلك فإن الخطة التي يطرحها نتنياهو ليست خطة للسيطرة، بل وصفة للتآكل الذاتي. "إسرائيل" تدخل إلى غزة كقوة غازية، لكنها تخرج منها – مهما طال الزمن – ككيان فقد قدرته على إثبات تفوقه الاستراتيجي.
إنها مقامرة وجودية بامتياز، حيث يراهن الاحتلال على سحق مجتمع لا يُسحق، بينما يراهن المجتمع الفلسطيني على الزمن والديموغرافيا والمقاومة لفرض واقعه. وفي هذا التوازن غير المتكافئ، يبدو المستقبل أبعد ما يكون عن الانتصار "الإسرائيلي".
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]