الثلاثاء 16 أيلول , 2025 03:28

رواية النصر في معركة أولي البأس: الحلقة الثالثة

الشهيدان القائدان إبراهيم عقيل "الحاج عبد القادر" وأحمد وهبي "الحاج أبو حسين سمير"

بعد تفجيري "البيجر" و"اللاسلكي"، أقدم الكيان المؤقت على اغتيال قيادات من وحدة "الرضوان" في 20 أيلول / سبتمبر 2024، خلال اجتماع عسكري لهم في الضاحية الجنوبية، بهدف شل القدرة القيادية للمقاومة ومنعها من الرد خلال تنفيذ برنامج هجومي بالأسلحة المشتركة في لبنان.

فجاء اغتيال الشهيد القائد الجهادي الكبير الحاج إبراهيم عقيل "عبد القادر" ورفاقه الشهداء في قيادة وحدة الرضوان النخبوية، في سياق استباقي لتقليص حجم الخسائر والمخاطر المحتملة، وفق برنامج معد مسبقًا لاغتيال القيادات العسكرية والأمنية وتدمير القدرات النوعية للمقاومة، وإضعاف القدرات الدفاعية البرية لحزب الله قبيل بدء عملية التوغل البري المخطط لها، والتي هدفت إلى اختبار الدفاعات والقضم التدريجي بحسب طبيعة المواجهة. وقد أعلن الجيش الإسرائيلي في بيانه أنه نفّذ "ضربة محدّدة الهدف" على بيروت، مضيفاً بأنه "قضى على المدعو إبراهيم عقيل، رئيس منظومة العمليات لحزب الله، والقائد الفعلي لقوة الرضوان، وقائد خطة حزب الله لاحتلال الجليل".

المراحل الأولى للعدوان الإسرائيلي

وفي 21 أيلول / سبتمبر 2024 أطلق حزب الله 90 صاروخًا على صفد وكريات شمونة، فرد جيش الاحتلال الإسرائيلي بـ 200 غارة جوية مركزة على مناطق الجنوب والبقاع استهدفت بحسب زعمه - الترسانة الصاروخية والمراكز العسكرية التي أمضى قرابة 20 عاما في جمع المعلومات عنها.

وفي 23 أيلول / سبتمبر 2024، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي هجومًا واسعًا على لبنان بهدف ضرب قدرات حزب الله، حيث بلغت الغارات نحو 1600 غارة نفذت بواسطة 250 طائرة. وأسفر هذا الهجوم عن استشهاد حوالي 558 مقاوماً ومدنيًا، وهو اليوم الذي يُعتبر بداية الحرب الفعلية. وقد استهدفت الغارات بحسب الادعاءات الإسرائيلية منصات إطلاق ومقرات ومبان عسكرية وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن إطلاق عملية "سهام الشمال".

سلاح التهجير

وفي محاولة لاستكمال ضرب قدرات حزب الله في إدارة الهجمات الصاروخية والمناورة البرية، واصل جيش الاحتلال الإسرائيلي استهداف المراكز والمخازن العسكرية والعناصر التابعة للمقاومة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. وبالتوازي مع هذه الاستهدافات، شرع في تنفيذ سياسة التهجير القسري لفرض معادلة "التهجير بالتهجير، والعودة بالعودة"، مقرونا بعمليات مركزة ضمن الحرب الإعلامية والنفسية ضد المقاومة، ما أدى إلى إخراج نحو مليون مواطن من بيوتهم.

وفي هذا السياق، استغل جيش الاحتلال الإسرائيلي حالة النزوح ضمن عمليات التوجيه والتأثير الإعلامي بغرض التحريض على المهجرين، وإذلالهم، وخلق شرخ داخل البيئة اللبنانية الحاضنة؛ غير أن هذه المحاولات اصطدمت منذ اللحظات الأولى بتضامن اجتماعي لبناني غير مسبوق خلال معركة "أولي البأس "، فأفشلت أهداف كيان الاحتلال الإسرائيلي المضمرة وحوّلت النزوح إلى عنوان إضافي للصمود الجماعي.

أدوار حركة أمل والرئيس بري في مقاومة العدوان

وهنا برز الرئيس نبيه بري كأحد الأعمدة السياسية الأساسية التي شكلت سندًا للمقاومة في معركة "أولي البأس". فقد جمع بين موقعه الدستوري كرئيس لمجلس النواب الضامن للتوازنات الداخلية، وبين موقعه القيادي في حركة "أمل" التي شكلت قوة داعمة سياسيًا وميدانيًا في الجنوب والبقاع والضاحية على المستوى السياسي. وقد أدار الرئيس بري ملف المواجهة عبر شبكة واسعة من الاتصالات الداخلية والدولية، مكنت من تثبيت الموقف السياسي للمقاومة ومنع محاولات عزلها عن محيطها اللبناني. كما مارس ضغطاً سياسيا في ملف المفاوضات لوقف إطلاق النار، وأحبط محاولات إشعال الفتنة الداخلية. وإلى جانب ذلك، أولى عناية خاصة بملف النازحين من القرى الجنوبية والبقاع والضاحية، ففعل قنوات الدعم والإغاثة وعمل على تأمين الخدمات الأساسية لهم ما حال دون تحوّل النزوح إلى ورقة ضغط بيد جيش الاحتلال الإسرائيلي.

وفي موازاة هذا الدور، جسدت حركة "أمل" عبر مقاوميها ومؤسساتها الامتداد العملي للدور السياسي. فقد اضطلعت كشافة الرسالة الإسلامية وفرقها الصحية بالاستجابة الإنسانية والإسعافية من خلال إغاثة الجرحى ومساندة الأهالي في القرى المستهدفة. ولم يسلم العمل الإنساني لحركة أمل من الاستهداف، إذ قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي مرارًا مقار جمعية "الرسالة" الطبية والإغاثية التي كانت تعمل جنبًا إلى جنب مع الهيئة الصحية الإسلامية في إنقاذ الجرحى وانتشال المدنيين من تحت الأنقاض. أما مقاوموها فقد شكلوا خطوط دفاع متقدمة عن بلداتهم، منخرطين في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال حيث ارتقى لهم مئات الشهداء. هذا التلازم بين القيادة السياسية التي مثلها بري والجهد الميداني والإنساني الذي اضطلعت به مؤسسات الحركة، أسهم في ترسيخ نموذج متكامل للصمود الوطني، قائم على وحدة الموقف السياسي وصلابة الأرض والمجتمع في آن واحد.

اغتيال سيد شهداء الأمة

وبالعودة إلى تاريخ 23 أيلول / سبتمبر، وعلى الرغم من انطلاق مباحثات ما قبل بدء الهجوم بشأن مبادرة جاءت عقب اتصال هاتفي بين مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون دیرمر، هدفت إلى التوصل لوقف لإطلاق النار في الجبهة اللبنانية يتيح فتح مسار تفاوضي أوسع، يمنع توسع الحرب، ويسمح بعودة المدنيين النازحين على جانبي الحدود، إلى جانب تحريك مفاوضات وقف النار في غزة وملف تبادل الأسرى، وموافقة سيد شهداء الأمة على هدنة محدودة لمدة 21 يومًا، إلا أن مسار الأحداث اتخذ منحى تصعيديًا.

ففي 27 أيلول / سبتمبر 2024، اتخذ بنيامين نتنياهو قرارًا باغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله وذلك بعد ساعة واحدة فقط من تهديد بتسلئيل سموتريتش بالاستقالة. وقد جاء القرار إثر مداولات حاسمة خيرت خلالها الأجهزة الأمنية نتنياهو بين خيارين وقف إطلاق النار أو المضي في عملية الاغتيال. استند التقدير الإسرائيلي إلى فرضية أن اغتيال السيد نصر الله سيؤدي إلى انهيار "المحور" برمته، وإحداث صدمة نفسية ومعنوية عميقة لدى عناصر المقاومة وجمهورها، بما يدفع حزب الله في نهاية المطاف إلى الاستسلام واجتثاثه نهائيا.

صمود المقاومة وشعبها رغم المصاب الكبير

وعلى الرغم من أنّ اغتيال سيد شهداء الأمة كان له وقع هائل على المقاومة وجمهورها والعالم بأسره، فإن المقاومة وأنصارها استطاعوا أن يطووا أحزانهم سريعًا ويؤجلوا العزاء عليه، ويباشروا العمل على ترميم قدراتهم وإقفال الثغرات الأمنية. وقد كان لتصدّي سماحة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم لقيادة الحزب، ومسارعته إلى ملء الفراغات القيادية، وتوزيع المهام، وإدارة جبهة المقاومة الدور الحاسم في تحويل مسار الحرب على نحو معاكس تماما للتقديرات الإسرائيلية. فعمليات المقاومة الدفاعية تصاعدت تدريجيًا، بدءًا من استخدام الطائرات المسيرة، مرورًا بإطلاق الصواريخ الباليستية، وصولاً إلى استهداف تل أبيب، ولا سيما في اليوم الذي أطلق عليه الكيان الإسرائيلي اسم "الأحد الأسود" في 24-11-2024، وهو اليوم الذي شكل محطة مفصلية دفعت جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى طلب تدخل الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار، الذي تم في 27-11-2024.

ورغم التفوق التقني والتسليحي بجيش الاحتلال، نجحت المقاومة في التكيف مع ظروف المعركة المعقدة، وألحقت خسائر متزايدة بعدوّها، وصولاً إلى امتصاص الضربات المركبة التي تعرّض لها حزب الله بين 17 أيلول / سبتمبر و4 تشرين الأول / أكتوبر 2024. وقد شملت هذه الضربات استهداف القدرات والقادة، وعمليات التهجير القسري، والضغط على منظومات القيادة والسيطرة، إلى جانب الاختراقات الأمنية وتعطيل الاتصالات. غير أن هذه الإجراءات لم تفلح في كسر التماسك الداخلي أو إضعاف القدرة القتالية. وقد استعد المقاومون عمليًا للمواجهة البرية في ظل التحضيرات العسكرية للجيش الإسرائيلي على الحدود وتحشيد قواته عند الجبهة الشمالية المؤلفة من 5 فرق عسكرية، إذ تشير التقديرات إلى أنه لا يقل عن 75 ألف جندي وضابط تقريباً قد شاركوا في العملية البرية.

ومن رحم هذه التجربة ولد جيل قتالي جديد جسد مدرسة "أولي البأس" بسماتها الراسخة: العقيدة الصلبة الانضباط العالي، روح المبادرة والمرونة العملياتية. جيل قاتل ثائرا مستلهما القدوة الكربلائية، مطمئنا بقول الله تعالى: "وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"، ليجعل من الميدان شاهدًا على معادلة الإيمان والدم والانتصار.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور