الأربعاء 06 آب , 2025 03:39

"إسرائيل" بين الاستنزاف والانهيار: هل يتحول احتلال غزة إلى المقامرة الأخيرة لنتنياهو؟

نتنياهو وزامير ودبابة إسرائيلية

في عالم تحكمه القوى الإمبريالية وتُدار فيه المعارك كما تُدار البورصات، ليس مفاجئًا أن يتحول قطاع غزة، المحاصر والمجوّع، إلى حقل تجارب دموية لحروب العقاب الجماعي والإبادة المتلفزة. لكن ما يجري اليوم، بعد نحو عامين على بدء حرب الإبادة على غزة، يكشف عن انشقاقات داخل المنظومة الصهيونية نفسها: تلك الشروخ بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية ليست فقط علامة ضعف، بل هي تعبير عن مأزق استراتيجي لا يمكن ترميمه بالإرهاب وحده.

التناقض في قلب السلطة: نتنياهو ضد المؤسسة العسكرية

ما جرى في الاجتماع الأمني الأخير بين بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير لم يكن خلافًا تكتيكيًا. بل كان لحظة كشف فاضحة عن التحلل الداخلي داخل "المؤسسة الإسرائيلية" الحاكمة. نتنياهو، الغارق في ملفات فساد والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، يرى في احتلال قطاع غزة بالكامل طوق نجاة شخصي وسياسي. أما رئيس الأركان، الذي يمثل "الشرعية التاريخية" للجيش، فيدرك أن هذا الاحتلال سيكون "مصيدة استراتيجية" قد تنهي ما تبقى من تماسك الكيان الصهيوني داخليًا.

وهنا تكمن المفارقة: للمرة الأولى في تاريخ الحروب الصهيونية، يُقدِم رئيس وزراء على الدفع بعملية عسكرية ضخمة، رغم معارضة الجيش، بل والمجتمع "الإسرائيلي" نفسه، الذي تعب من صور التوابيت والإخفاقات العسكرية المتراكمة. هذا ليس مجرد تمرد داخلي، بل تحول في البنية العقائدية للصهيونية العسكرية: لم يعد الجيش هو من يقرّر، بل "الدولة العميقة" التي اختزلها نتنياهو بشخصه.

أسرى "إسرائيل" كوقود لمشروع سياسي

أكثر ما يثير السخرية – بل والرعب داخل المجتمع "الإسرائيلي"– هو استعداد نتنياهو للتضحية بأسرى جيشه في غزة من أجل مشروع الاحتلال الكامل. إن رفض الجيش لهذه العملية لا ينبع فقط من المخاوف الميدانية، بل من قناعة استراتيجية بأن التخلي عن هؤلاء الأسرى يضرب "أسطورة إسرائيل التي لا تترك أبناءها". هذا التخلي، لو تم، سيكون كفيلاً بتحطيم العقد الاجتماعي القائم بين الجيش والمجتمع "الإسرائيلي".

نتنياهو يعرف ذلك. لكنه يراهن على لحظة مفصلية: أن ينجح في فرض "سلام الإخضاع" على حماس – عبر القتل الجماعي والتجويع والتدمير – فيقبل الطرف الآخر بشروطه، دون الحاجة لمقامرة الاحتلال الكامل. لكن كل المؤشرات تشير إلى أن هذا الاحتمال يتآكل، خاصة مع استمرار المقاومة في غزة، ورفضها التنازل رغم المذابح.

التجويع كأداة جيوسياسية

منذ أشهر، يقف قطاع غزة على حافة المجاعة. لا بسبب كوارث طبيعية، بل نتيجة قرار عسكري مدروس. التجويع، كما وصفه المفكر الأميركي مايكل والزر، ليس فقط أداة حرب، بل أداة هندسة سياسية. نتنياهو لا يريد فقط سحق حماس، بل كسر إرادة الشعب الفلسطيني، ودفعه نحو خيار التهجير أو الاستسلام.

لكن حتى هذه الأداة تفقد فعاليتها. فكلما ازدادت الوفيات جوعًا، كلما انكشف زيف الخطاب الأخلاقي الغربي، وزادت الضغوط على "إسرائيل" من الداخل والخارج. وهنا تكمن المعادلة المقلوبة: كل مجزرة جديدة تُضعف اليد "الإسرائيلية" سياسيًا، حتى لو منحتها تفوقًا ميدانيًا مؤقتًا.

التحالف الأميركي–"الإسرائيلي": ازدواجية أخلاقية صارخة

الإدارة الأميركية، بقيادة دونالد ترامب، تعيش حالة من الانفصام الاستراتيجي. من جهة، يعلن ترامب عن دعمه للمساعدات الإنسانية لغزة، ومن جهة أخرى، يبارك أي عملية توسع عسكري لاستعادة الأسرى. هذه الازدواجية ليست جديدة، لكنها اليوم أشد فجاجة، لأنها تُدار على خلفية انتخابات أميركية قريبة، وبتأثير من لوبيات السلاح والبترول.

في هذا السياق، يغدو الموقف الأميركي – الذي لا يدين المجازر بل يناقش "الوسائل المثلى" لإنهائها – جزءًا من البنية البنيوية للصراع، لا من الحل. وهذا ما يجعل الحديث عن "ضغوط أميركية على إسرائيل" مجرد وهم إعلامي لا أكثر.

الاحتمالات المقبلة: ثلاثة سيناريوهات قاتمة

احتلال كامل لغزة:

هو الخيار الذي يدفع نحوه نتنياهو، رغم معارضة المؤسسة العسكرية. إن تم، فستكون النتيجة كارثية، ليس فقط على السكان الفلسطينيين، بل على "الجيش الإسرائيلي" نفسه الذي سيُستنزف في حرب شوارع لا نهاية لها، وسترتفع أعداد قتلاه بشكل لا يمكن تبريره للمجتمع "الإسرائيلي".

تطويق غزة وتنفيذ عمليات نوعية:

هذا هو خيار زامير: عمليات انتقائية مع الحفاظ على "مسافة أمان" من التورط الكامل. لكنه حل ترقيعي، لن يُعيد الأسرى، ولن يُنهي المقاومة، بل سيبقي الصراع في حالة استنزاف طويل، دون قدرة على إعلان نصر واضح.

تهجير تدريجي للسكان نحو الجنوب:

الأخطر من بين السيناريوهات. فوفقًا لمحللين "إسرائيليين"، يجري التفكير جديًا في تهجير ما تبقى من سكان غزة نحو الجنوب، لتسهيل العمليات العسكرية، وتغيير الواقع الديمغرافي. هذا يعني عمليًا تدشين مرحلة جديدة من "النكبة المتواصلة"، وهي مرحلة قد تتوسع إقليميًا إذا لم يتم التصدي لها.

تفكك الشرعية الصهيونية

في ضوء ما سبق، يبدو أن "إسرائيل" تقترب من نقطة الانهيار الأخلاقي والسياسي. إذ لم تعد الحرب على غزة مجرد مسألة "أمن قومي"، بل أصبحت مرآة تعكس أزمة البنية السياسية "الإسرائيلية" ذاتها. حين يتحول رئيس الوزراء إلى قائد ميليشيا، ويتحول الجيش إلى جهة "معارضة"، فإننا أمام نهاية مرحلة وبداية أخرى.

وربما يكون أخطر ما في هذه المرحلة، هو أن نتنياهو – في سعيه للهروب من المحكمة الدولية ومن الانتخابات – مستعد لحرق كل ما تبقى من "إجماع صهيوني". وهذا ما يفسر هجومه العلني على الجيش، وتحريض ابنه يائير على رئيس الأركان، ورفضه لأي توصية لا تنسجم مع خطته النهائية.

في غزة: انتظار الموت أو المواجهة

بالنسبة لسكان غزة، لا توجد ترفيات في الخيارات. التهجير جنوبًا أو الموت شمالًا. وهذه ليست مبالغة بل توصيف دقيق للواقع، حيث لم تعد رفح وخان يونس قادرتين على استيعاب مئات الآلاف الذين يُدفعون إليها قسرًا، والذين يُمنعون من العودة إلى بيوتهم.

"الجيش الإسرائيلي"، الذي لم يحقق نصرًا منذ عقود، يجد نفسه أمام جبهة بشرية غاضبة، ومحاصرة، ومستعدة لكل شيء. وهذا ما يدركه القادة العسكريون، لكن نتنياهو – في سكرته السياسية – يرفض الاعتراف به، ويجرّ بلاده نحو الهاوية.

كلمة أخيرة: من هنا تبدأ نهاية "إسرائيل"

ما يجري اليوم ليس فقط مأساة فلسطينية، بل انهيار سردية "إسرائيلية". كل ما قامت عليه "الدولة العبرية": من تفوق الجيش، وتماسك الجبهة الداخلية، ودعم الغرب، بدأ ينهار بشكل تدريجي. ومع كل مجزرة في غزة، يسقط جزء من هذه الشرعية.

لكن تبقى القوة الأخلاقية في مكان آخر: في صمود الشعب الفلسطيني، وفي تفكك البنية الإمبريالية التي تغطي على هذه الجرائم. ومع تآكل دعم الجبهة الداخلية، وتزايد عزلة "إسرائيل"، قد يتحول احتلال غزة – إن حدث – إلى لحظة الانتحار الاستراتيجي النهائي.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور