رغم أنّ المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة لم تبدأ فعلياً بعد، إلا أن ملامحها وتحدّياتها تسبق أي حديث عنها. فالمسار الذي تروج له الولايات المتحدة باعتباره خطوة نحو "الاستقرار الدائم" في القطاع، يبدو اليوم أقرب إلى عملية سياسية معلقة غير قابلة للتنفيذ بشكلها الحالي، لا تتوافر لها الشروط الميدانية ولا الغطاء السياسي اللازم، سواء من جانب كيان الاحتلال أو من جانب الأطراف الإقليمية المعنية. ومع أنّ الخطّة، في ظاهرها، تحمل وعوداً بإنهاء دوّامة الحرب وإطلاق مسار لإعادة الإعمار، إلا أنّ جوهرها الأمني يجعلها أقرب إلى تصوّر نظري طموح، منه إلى مشروع واقعي قابل للحياة.
في خلفية المشهد، تسعى واشنطن وتل أبيب إلى حلّ عقدة محدّدة تعتبرها شرطاً مسبقاً قبل الشروع في المرحلة الثانية، وهي قضية مقاتلي "حماس" في رفح. فقد جرى، عبر القناة التركية، التوصل إلى تفاهمات أولية لتأمين خروج آمن لهؤلاء المقاتلين مقابل تسلّم إسرائيل جثّة الضابط هادار غولدين، المحتجزة منذ حرب 2014. وعلى الرغم من تنفيذ الجزء المتعلق بتسليم الجثة، لم تلتزم تل أبيب بما يوازيه من بنود، ما جعل الاتفاق الهشّ عرضة للانهيار. ورغم أن هذا التفاهم ليس جزءاً من "المرحلة الثانية"، إلا أنّه يمثل أحد شروطها السياسية والأمنية، لأن نجاحه يعني فكّ الارتباط بين الملف الإنساني (الأسرى والجثث) والملف الأمني - السياسي، وهو ما يمهد لمفاوضات أوسع حول مستقبل غزة وسلاح المقاومة فيها.
غير أنّ هذا الشرط نفسه يكشف حجم المأزق. فمجرد التفكير في تفكيك البنية العسكرية لحركة حماس، أو تحديد من يتولى إدارة القطاع لاحقاً، يعني الدخول في مواجهة مفتوحة مع الحركة، التي لا تزال تمسك بجزء واسع من الأرض وبمفاتيح القوة في القطاع. كما أنّ فكرة "القوة الدولية" التي تطرحها واشنطن لتولّي إدارة ما بعد الحرب، لا تزال غامضة، وغير واضحة المعالم، لا هوية واضحة لها، ولا صلاحيات محدّدة، ولا ضمانات بشأن قبولها ميدانياً. وهو ما يجعلها فكرة نظرية أكثر منها آلية قابلة للتنفيذ، خاصة في ظلّ تجربة فاشلة سابقة للقوات الدولية في مناطق نزاع مشابهة، وانعدام ثقة الأطراف بها، لا سيما حركة حماس كما الشعب الفلسطيني بعد تورط الهيئات الأممية في بتواطئهم مع الابادة الاسرائيلية التي مورست بحقهم.
تزامناً مع هذه التعقيدات، جاءت زيارة المبعوثين الأميركيين جاريد كوشنر وستيف ويتكوف إلى إسرائيل لتدفع تل أبيب نحو المضي في ما وافقت عليه سراً وتنكره علناً. فالإدارة الأميركية تدرك أنّ أيّ تأخير في حلّ العقدة الميدانية برفح سيُفرغ خطتها من مضمونها، ويؤخر المرحلة الثانية إلى أجل غير مسمى. غير أن الموقف الإسرائيلي الداخلي لا يبدو مهيئاً للتماشي مع هذا المسار، إذ أطلق النائب -من الليكود- عميت هاليفي تصريحات حادة، أكد فيها أنّ "لا هدايا بالمجان"، مشدداً على أنّ "حماس" أعادت بناء أنفاقها خلال أسبوعين فقط، في إشارة واضحة إلى رفض أي تسوية تعتبر تنازلاً أو اعترافاً غير مباشر بقدرة الحركة على الصمود.
هذا التناقض بين ما تُقرّه تل أبيب في الغرف المغلقة وما تعلنه في العلن، يكشف مأزقاً أعمق في مقاربة واشنطن نفسها. فخطة ترامب، وإن كانت تعبّر عن رغبة أميركية في فرض هندسة أمنية جديدة لغزة، إلا أنها تفتقر إلى خريطة طريق تنفيذية، وتُحمّل الولايات المتحدة عبء إدارة أزمة يومية بدلاً من بلورة حلّ استراتيجي. لذلك تحولت الدبلوماسية الأميركية إلى إدارة تفصيلية ميدانية، تعتمد على زيارات مكوكية وضغوط متواصلة، لا على إطار تفاوضي شامل.
من ناحية أخرى، فإن العواصم الكبرى، ومعها بعض الدول الخليجية، تعلن دعمها لإعادة الإعمار والاستقرار الدائم، لكنها تتجنب الخوض في اشكالية نزع سلاح حماس. لا الولايات المتحدة مستعدة لدفع ثمن سياسي أو عسكري لتحقيق ذلك، ولا إسرائيل قادرة على تحمل الخسائر التي قد تنتج عن عملية كهذه، ولا أيّ قوة ثالثة يمكنها تنفيذ هذه المهمة دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع المقاومة الفلسطينية.
حتى مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، الذي يُروّج له باعتباره خطوة متقدمة، لا يقدّم حلولاً عملية لأيّ من العُقد الجوهرية، بل يكتفي بالترويج الزائف بالتقدم السياسي.
تكشف الوقائع الميدانية أنّ إسرائيل تسيطر على نحو نصف قطاع غزة، سواء عبر الوجود العسكري المباشر أو السيطرة بالنيران عن بعد، فيما لا تزال حماس تحتفظ بالباقي. هذا الواقع يفرض ميزان قوى متوازناً نسبياً، يصعب تغييره عبر المفاوضات. وما لم تحققه إسرائيل بالحرب، تتخبط في محاولتها تحققه عبر الوسائل السياسية، خاصة إذا كانت هذه الوسائل تُبنى على فرضيات غير واقعية عن "غزة منزوعة السلاح".
الكاتب: غرفة التحرير