الخميس 17 تموز , 2025 05:18

بين تيران وإيلات: صنعاء تُفقد إسرائيل رفاهية الردع التقليدي

أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن الإغلاق الكامل لميناء إيلات، أحد أهم موانئها الجنوبية، اعتباراً من 20 تموز/يوليو المقبل في خطوة تشي بأن الضربات العسكرية المتواصلة التي نفّذتها القوات المسلحة اليمنية، عجزت إسرائيل عن احتوائها أو صدها. وبحسب وصف موقع "واللا" العبري: "انتصر الحوثيون، ميناء ايلات سيتوقف عن العمل".

وفقاً لما نشره موقع "واي نت" العبري، فإن إيرادات ميناء إيلات تهاوت بنسبة تقارب 100% خلال عام 2024، بعد أن تخلت كبرى شركات الشحن عن المرور عبر البحر الأحمر خشية من الهجمات اليمنية. كانت هذه الشركات تعتمد الميناء كمحطة رئيسية لتفريغ وتخزين المركبات القادمة من شرق آسيا، وهو ما مثّل العمود الفقري للنشاط الاقتصادي في إيلات. لكن منذ بدء العمليات العسكرية التي أعلنت عنها صنعاء، توقفت السفن بشكل شبه كامل، وهو الأمر الذي تسبب بأزمة دخل الميناء من "مئات ملايين الشواقل إلى ما يقارب الصفر".

حاولت تل أبيب معالجة الموقف بمنحة طارئة قدرها 15 مليون شيكل، صادقت عليها الحكومة في حزيران/ يونيو 2025، إلا أنها لم تُصرف حتى لحظة إعلان الإغلاق، ولم تكن كافية بأي حال لتغطية التزامات تشغيلية ضخمة تشمل رواتب العمال، مستحقات التقاعد، وخدمات لوجستية للقاعدة البحرية المجاورة.

ما يعمّق خطورة هذا التطور ليس فقط الأثر الاقتصادي المباشر، بل البعد الأمني والعسكري. ميناء إيلات يُعد موقعاً استراتيجياً للبحرية الإسرائيلية في البحر الأحمر، ومركزاً لوجستياً يُفترض أن يكون محصناً في حال اندلاع مواجهة إقليمية. إلا أن القصف المتكرر، الذي أعلنت القوات المسلحة اليمنية تنفيذَه عبر طائرات مسيّرة وصواريخ مجنحة استهدفت الميناء والبنية التحتية العسكرية المحيطة به، وضع الاحتلال أمام معادلة جديدة: لا قدرة على تأمين الساحل، ولا قدرة على ضمان سلاسة الملاحة، ولا هامش لتعويض الخسائر أو ترميم القدرة التشغيلية في ظل الهجمات المستمرة.

المفارقة أن حكومة الاحتلال فشلت في الردع حتى ضمن مفهومه الدفاعي، على عكس ما جرى في 1967 حين بررت إسرائيل دخولها الحرب بإغلاق مضيق تيران أمام سفنها، لتحتل سيناء بالكامل. أما اليوم، فهي تواجه حصاراً عسكرياً فعلياً دون أن تستطيع حتى الإبقاء على تشغيل ميناء.

إغلاق ميناء إيلات لا يُعدّ خسارة محلية أو تقنية، بل هو انعكاس لانكشاف بنيوي عميق في الاقتصاد الإسرائيلي. هذا الميناء كان يُشكّل البوابة التجارية الجنوبية الوحيدة للكيان باتجاه آسيا وأفريقيا، وتوقّف نشاطه لا يعني فقط خسائر فورية في المداخيل، بل يرتّب أضراراً بعيدة المدى في سلاسل التوريد، وتكاليف النقل، وعقود الشحن، وكل ما يتصل بالبنية اللوجستية للتجارة الخارجية.

كما أن فقدان الميناء يوجه ضربة مباشرة لقطاع السيارات، الذي يعتمد على استيراد المركبات عبر البحر الأحمر. شركات شحن عديدة، أبرزها من اليابان والصين، قررت منذ أواخر 2023 تغيير مساراتها إلى أوروبا أو شمال أفريقيا، ما يعني أن بعض الموردين انسحبوا كلياً من السوق الإسرائيلية. هذه الانسحابات لن تُعالج بسهولة، وقد تستمر آثارها على مدى سنوات.

إضافة إلى ذلك، فإن المستثمرين في مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية  -سواء في الموانئ أو المرافق البحرية أو المناطق الصناعية الجنوبية- يواجهون اليوم واقعاً غير مؤمّن أمنياً ولا سياسياً. وبهذا، فإن الضربة التي تلقاها ميناء إيلات ستبقى رادعاً استثماريّاً طويل الأمد، سيظهر تدريجياً في مؤشرات النمو والتشغيل.

في ظل استمرار الحرب على غزة وعدم التوصل إلى وقف إطلاق نار، تزداد وتيرة الضربات التي تشنها صنعاء على البحر الأحمر، خاصة بعد أن أصبح الميناء هدفاً متكرراً لهجمات الطائرات المسيّرة. هذا التصعيد يمنع عملياً أي إمكانية لإعادة تأهيل الميناء أو تنفيذ خطط لإعادة الإعمار أو الصيانة. ليس هناك شركة تأمين تغامر بتغطية عمليات البناء في منطقة مكشوفة للهجوم، ولا عمال أو معدات يمكن حشدها في ظل حالة الطوارئ المستمرة.

وبالتالي، فإن الحديث عن "إغلاق مؤقت" أو "حلول إدارية" كما تحاول حكومة الاحتلال الترويج، لا يصمد أمام الواقع. إيلات خرجت من المعادلة التجارية فعلياً، وستبقى كذلك طالما أن المواجهة الإقليمية لا تزال مستمرة، وطالما أن صنعاء تواصل ضرباتها.

الأزمة التي يعيشها ميناء إيلات تُشكّل نقطة تحوّل في معادلة الصراع. للمرة الأولى، تنجح قوة عسكرية غير تقليدية، وبعيدة جغرافيا، في إخراج ميناء إسرائيلي من الخدمة بشكل كامل. وهذا لم يحصل بقصف مكثف أو اجتياح بري، بل عبر استراتيجية استنزاف متقنة، تستهدف الهيكل الاقتصادي، وتُظهر كيف يمكن لقوة من خارج الجبهة الشمالية أو الغربية أن تعيد رسم قواعد الاشتباك البحري.

إن الخسائر التي يتكبدها الاحتلال اليوم لا يمكن قياسها فقط بالميزانيات، بل تمتد إلى موقعه الإقليمي، وصدقيته لدى الشركاء التجاريين، وفعاليته في حماية سواحله. وما بدأ كأزمة مالية في مرفق جنوبي تحوّل إلى مرآة تعكس عمق مأزق الاحتلال أمام تصعيد يمني مدروس، لن تتوقف تداعياته قريباً.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.



دول ومناطق


روزنامة المحور