تشكل النزاعات المسلحة الحديثة، لا سيما تلك التي تدور في بيئات قتالية معقدة تتداخل فيها التضاريس الحضرية بالغابات والمحميات الطبيعية، تحديًا كبيرًا للمقاتلين والمنظومات العسكرية على حد سواء. تتطلب هذه البيئات تطوير كفاءات قتالية متقدمة ومميزات عملياتية فريدة، بالإضافة إلى صفات شخصية وذهنية قادرة على التعامل مع الضغوط والمفاجآت. يستعرض هذا المقال، بناءً على تحليل سردية " معركة أولي البأس" الخصائص التي برزت لدى المقاوم اللبناني والجندي الإسرائيلي، بهدف فهم أعمق للعوامل التي قد تساهم في تحديد مخرجات الاشتباكات في مثل هذه السياقات.
يركز التقييم على ثلاثة محاور رئيسية عند مقاتلي الطرفين وهي: الكفاءات القتالية، المميزات القتالية، والصفات الخاصة.
المقاوم اللبناني في "معركة أولي البأس"
وفقًا للتحليل المستمد من سردية المعركة، أظهر المقاوم اللبناني مجموعة من القدرات المتطورة التي مكنته من تحقيق أداء فعال. وبدأت هذه القدرات والكفاءات تفرض نفسها على نخبة العدو في بداية المعركة بمواجهة وحدة إيغوز التي تلقت ضربات قاسية في كمين مركب مستهدف في اليوم الأول للمعركة البرية ( كمين المحافر في عديسة ) وبما أن هذه التجربة كانت بين المشاة فقد أظهرت تفاوتاً فاضحاً بين القوة المدافعة والقوة المهاجمة برع فيها المقاومون بـ ( القتال الليلي – الاستخبارات التكتيكية الدقيقة التي حددت مسار جنود العدو – الجاهزية – إرادة القتال – البراعة في تطبيق خطة الكمين المركب وتطبيقها بحذافيرها ) فيما يلي عرضاً مكثفاً مستند إلى تقييم خصائص المقاوم اللبناني في المحاور الثلاث الأساسية (الكفاءات القتالية، المميزات القتالية، والصفات الخاصة)
أولاً: الكفاءات القتالية (المهارات والمعرفة التقنية والتكتيكية):
برز المقاوم اللبناني بإتقانه لمجموعة متنوعة من المهارات القتالية التي تتناسب مع طبيعة الصراع اللامتناظر والبيئة العملياتية المعقدة. ويمكن تلخيص أبرز هذه الكفاءات في الآتي:
- حرب العصابات المتقدمة والقتال اللامتناظر والهجين: تمثلت هذه الكفاءة في إتقان نصب الكمائن الفعالة باستخدام مزيج من العبوات الناسفة، الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، والصواريخ الموجهة. كما برع المقاومون في القتال التصادمي والالتحام من مسافات قريبة جدًا (نقطة الصفر)، معتمدين على الدفاع المتحرك والمرن الذي يتجنب التمسك الثابت بالأرض لصالح الأعمال التعرضية الهجومية. وكان للاستخدام الفعال للتضاريس المتنوعة (المبنية، الغابات) دور حاسم في تحقيق الإشراف، والرماية الدقيقة، والتمويه، والمناورة. بالإضافة إلى ذلك، أظهروا مهارات قنص دقيقة، لا سيما باستخدام القناصات الثقيلة.
- الاستخدام الكفء للأسلحة المتنوعة: شمل ذلك التعامل الماهر مع الصواريخ الموجهة المضادة للدروع (مثل كورنيت وكونكورس) وتطبيق تكتيكات متقدمة في قنص الدروع. كما تم استخدام العبوات الناسفة المتنوعة والمعدة مسبقًا بفعالية، إلى جانب ترسانة واسعة من الأسلحة الصاروخية (قصيرة، متوسطة، بعيدة المدى، بما في ذلك الباليستية والمجنحة) والمدفعية (المباشرة وغير المباشرة). وكان لسلاح المسيرات الانقضاضية والاستطلاعية، سواء في عمليات فردية أو ضمن هجمات مركبة، دور بارز، بالإضافة إلى الاستخدام الكفء للأسلحة الخفيفة والمتوسطة في الاشتباكات القريبة.
- القيادة والسيطرة والتخطيط: تميز أداء المقاومة بالتخطيط الدقيق للعمليات الدفاعية والهجومية، مع القدرة على استباق تحركات العدو. وظهر تنسيق عالٍ بين مختلف الوحدات ومنظومات الأسلحة (مشاة، هندسة، صواريخ، مدفعية، مسيرات). وأثبت المقاومون قدرتهم على إدارة المعركة على عدة محاور وفي بيئات قتالية مختلطة، وتنفيذ مناورات ضيقة على مستوى المحور وواسعة على مستوى الجبهة بالأسلحة المشتركة، مع سرعة في اتخاذ القرار والاستجابة لتطورات الميدان.
- الاستخبارات والمعلومات: شكل الإطباق المعلوماتي والاستخباري التكتيكي والتعبوي الشامل ركيزة أساسية في عمليات المقاومة. وتميزوا بالقدرة على جمع المعلومات القتالية الفورية واستثمارها بسرعة، مع رصد ومراقبة دقيقة لتحركات العدو وتحضيراته، وكشف نواياه وخططه الخداعية.
- الحرب النفسية والإعلامية: تم توظيف هذا الجانب بفعالية من خلال نشر معلومات وبيانات تهدف إلى رفع معنويات الأنصار والتأثير سلبًا على معنويات العدو، كما يتضح من أمثلة مثل "فيديو الهدهد" المذكور.
- طرائق قتال مبتكرة: اعتمد المقاومون على دراسة ثغرات العدو وتكييف الأساليب القتالية بناءً على الدروس المستفادة من المواجهات السابقة والمستمرة.
ثانياً: المميزات القتالية:
إضافة إلى الكفاءات التقنية والتكتيكية، برزت لدى المقاوم اللبناني مميزات قتالية جوهرية، منها:
- المبادأة وفرض إيقاع المعركة: تميزوا بالقدرة على شن هجمات استباقية وعدم الاكتفاء برد الفعل.
- المرونة والتكيف العالي: أظهروا قدرة لافتة على تغيير التكتيكات بسرعة والانتقال بين أنماط قتال مختلفة حسب متطلبات الموقف.
- استغلال نقاط ضعف العدو: ركزوا على الأهداف الحيوية للعدو وتطبيق التكتيكات التي تحد من تفوقه التقليدي.
- المعرفة العميقة بالميدان: تم توظيف التضاريس والجغرافيا كعنصر قوة وسلاح فعال.
- القدرة على الصمود والاستمرار في القتال: رغم الضغط والخسائر المحتملة.
- الاقتصاد في القوة: تجلى في تركيز الجهود والموارد على الأهداف ذات القيمة العالية.
- التفوق في القتال الليلي والظروف الجوية الصعبة: استثمروا الظلام والظروف الجوية لشن هجمات وتحقيق المباغتة.
ثالثاً: الصفات الخاصة (السمات الشخصية والذهنية):
استند أداء المقاوم اللبناني، إلى مجموعة من الصفات الشخصية والذهنية الحاسمة:
- العقيدة والإيمان والروح المعنوية العالية: شكلت دافعًا قويًا للقتال والتضحية.
- الشجاعة والجرأة والإقدام: تجلت في الالتحامات المباشرة والانغماس في صفوف قوات العدو.
- الذكاء والحنكة التكتيكية والإبداع: ظهر في وضع الخطط المبتكرة وتنفيذ الكمائن الناجحة.
- الصبر والمثابرة والتحمل: في مواجهة الحصار والقتال الممتد.
- اليقظة والاستعداد الدائم.
- الانضباط والالتزام.
- القدرة على العمل ضمن فريق صغير ومنعزل بكفاءة عالية.
- الوعي الدائم بالميدان.
الجندي الإسرائيلي في "معركة أولي البأس"
بمراجعة شهادات قادة العدو قبيل ومع بدء المعركة يتبين ان الجيش لم يكن جاهزاً لحرب طويلة مع عدو صلب وقوي كحزب الله في جغرافيا عسكرية صعبة كالميدان اللبناني. فمعظم تقييمات المناورات التي نفذت قبل الحرب في قبرص واليونان وفي المنطقة الشمالية أظهرت عدة عناصر قصور في الإمكانات القتالية لألوية النخبة ( المظليين – الكوماندوس ) كما أن تقييم حرب إسناد المقاومة الإسلامية لغزة أظهر نقاط قصور كبيرة في منظومات الاستخبارات التكتيكية الضرورية في مناورة برية كبيرة في لبنان، كما أن جاهزية الالوية المناطقية التي تعرضت لاستهداف قاس من قبل المقاومة اللبنانية طيلة 11 شهراً من الإسناد، فضلاً عن أن عقد القيادة والسيطرة على المستوى التكتيكي كانت متضررة بشدة، إلا أن جنرالات العدو زجوا بخمس فرق عسكرية مستغلين الضربات الشديدة التي تعرض لها حزب الله في الأسبوعين الذين سبقا بداية المعركة البرية، باعتبار أنهم سيدخلون إلى لبنان لمقاتلة مقاومة بلا رأس، منزوعة الامكانات تم " تليينها " بالضربات الاستراتيجية المتتابعة منذ تفجيرات البايجر حتى اغتيال قادتها، وعلى رأسهم سيد شهداء الأمة الذي كان يعتبره العدو مركز ثقل حزب الله في أي معركة قادمة.
في المقابل، أظهرت وقائع الحرب وعمليات الاشتباك الكبيرة التي حصلت فيها (17 اشتباكاً نوعياً كبيراً) حقيقة الجندي الإسرائيلي الذي تدرب 30 شهراً على اقتحام لبنان إلا أن أوجه قصور التي واجهته خلال المعركة لم تكن في حجم أكثر التوقعات تشاؤماً.
أولاً: الكفاءات القتالية:
ينبغي الإشارة إلى بروز واضح لا يحتاج للتأويل لعدة نقاط ضعف أساسية في الكفاءات القتالية للجندي الإسرائيلي والتي ظهرت في الاشتباكات الكبيرة والنوعية في معركة أولي البأس:
- قصور في فهم طبيعة الخصم وأساليب قتاله: أدى إلى الاستهانة بقدرات المقاومة وتكرار الأخطاء التكتيكية.
- صعوبة التأقلم مع حرب العصابات والقتال اللاتماثلي: والاعتماد على تكتيكات الحرب النظامية التي أثبتت عدم فعاليتها في هذا السياق.
- ضعف في القتال في التضاريس المعقدة (العوارض الاصطناعية والطبيعية والغابات): مما أدى إلى الوقوع في الكمائن بسهولة وفقدان معرفة المكان عند الاشتباك.
- عدم القدرة على تحقيق اختراقات حاسمة: رغم التفوق الناري والتكنولوجي المفترض.
- مشاكل في تشغيل القوات والأسلحة المشتركة: تباطؤ في تنفيذ المراحل، وانتظار الفرق والألوية لبعضها البعض.
- فشل في عمليات الاستطلاع بالقوة: من خلال كشف نقاط ومسار القوة المتسللة، وتوسيع محاور التقرب بشكل خاطئ.
- سوء تقدير للموقف وعدم موائمة الخطط لمتطلبات المعركة الفعلية.
- الاعتماد المفرط على القوة النارية الجوية والمدفعية دون تحقيق نتائج حاسمة على الأرض.
ثانياً: المميزات القتالية:
لم تكن ظروف القتال التي اضطر جنود العدو لمواجهتها ملائمة بل اكتشف جنرالات العدو منذ اليوم الأول أنهم أدخلوا أنفسهم في الجحيم اللبناني مجدداً، وباتوا يرممون خططهم المرة تلو الأخرى حتى بلغت التعديلات في الخطط التشغيلية 9 مرات خلال 66 يوماً وتميز مصاعب الجنود في معركة أولي البأس بما يلي:
- فقدان المبادأة في كثير من الأحيان: والتحول إلى موقع رد الفعل.
- الجمود التكتيكي والافتقار للإبداع: وتكرار نفس الخطط التي ثبت فشلها.
- التردد في اتخاذ القرارات الميدانية الصعبة أو الحاسمة.
- عدم القدرة على استغلال التفوق التكنولوجي بشكل فعال في البيئة القتالية المحددة.
- الاستعلاء المسبق قبل بداية الحرب على الخصم وعدم أخذه بالجدية الكافية.
ثالثاً: الصفات الخاصة:
بما أن معركة أولي البأس تطلبت الاستعانة بألوية مشاة نخبوية (ايغوز – مظليين – كوماندوس – غولاني) فإن هذه الالوية تتميز بأنها لا تستقبل أفراداً عاديين حيث أن الطريق إلى استقطاب وتجنيد هؤلاء الجنود تبدأ من الصفات الخاصة التي يتمتعون بها ويتم صقل هذه الصفات الخاصة لسنوات خلال التدريب والتجارب العسكرية الحقيقية، إلا أن مراجعة سريعة لكيفية انعكاس هذه الصفات الخاصة على قتال وأداء جنود وحدات النخبة في مواجهة المقاومين يظهر تأثر الصفات الشخصية والذهنية للجندي الإسرائيلي في العناصر التالية:
- تأثر الروح المعنوية نتيجة للخسائر والمقاومة الشرسة.
- الارتباك والفوضى في بعض عمليات الاشتباك القريب أو عند مواجهة الكمائن.
- الخوف من الاشتباك المباشر في بعض المواقف، مما أدى إلى قطع الاشتباك فورًا.
- الاعتماد على الأوامر المباشرة وصعوبة إظهار المبادرة الفردية الفعالة.
- الاعتماد على تفوق نظري (دعم وإسناد جوي ومدفعي مكثف – تكنولوجيا تسليح عالية - ... الخ) لم يترجم إلى نجاح عملي في الميدان.
دراسات حالة: معارك رئيسية أظهرت التمايز في "معركة أولي البأس"
تقدم دراسة المعارك فرصة هامة للمعرفة والوعي العسكري بمجموعة من التطبيقات التي تنفذ في المعركة وبناءً على دراسة كل تلك العناصر يظهر التمايز بين طرفي المعركة. فيما يلي أمثلة عشوائية من اشتباكات ومعارك رئيسية خلال "معركة أولي البأس" تبرز التمايز في الأداء بين الطرفين إلا أننا توسعنا بالشرح في ثلاث معارك رشيسية لأن مجرياتها حملت عدداً من أصناف وطرائق القتال من الطرفين مما يسمح بتقييم شامل بناءً على العناصر التي ذكرناها آنفاً:
كمين المحافر في العديسة (ليل 1/2 أكتوبر 2024): يُقدم هذا الكمين كنموذج لقدرة المقاومة على نصب كمائن معقدة (عبوة ناسفة تلاها هجوم تعرضي) ضد وحدة نخبة إسرائيلية (إيغوز)، مما أسفر عن فشل العملية الإسرائيلية من بدايتها وتكبيدها خسائر كبيرة. ويُشار إلى أن هذا الكمين أبرز جهل القوة الإسرائيلية بطبيعة انتشار واستعداد المقاومة.
معركة مثلث الموت (رامية – عيتا الشعب – القوزح) (خاصة 11-17 أكتوبر 2024): يُنظر إلى هذه المعركة كدليل على صمود المقاومة وفعالية تكتيكاتها الدفاعية والهجومية (التعرض الهجومي – القتال التصادمي - الكمائن، استهداف الدبابات). في هذه المعركة، التي دارت رحاها بين 11 و17 أكتوبر 2024 تقريبًا، أظهر المقاتل اللبناني دفاعًا صلبًا وعنيدًا، معتمدًا على كمائن محكمة، أبرزها كمين حرش عيتا حيث تمكن ثلاثة مجاهدين من مواجهة فصيلي مشاة إسرائيليين. كما برع في الاستخدام الفعال للصواريخ الموجهة ضد الدبابات والجرافات الإسرائيلية، مع استمرار الاستهداف الناري لمواقع العدو وتجمعاته. نجحت المقاومة في تطبيق تكتيك استدراج وتوريط العدو في قتال إخلاء وإنقاذ، مستغلةً بشكل ممتاز التضاريس والغطاء النباتي لإعداد الكمائن. وبفضل هذه التكتيكات، فرضت المقاومة إيقاع المعركة على العدو ومنعته من تحقيق أي إنجاز، بل ونجحت في توريط معظم استعداد لواء غولاني في عمليات إخلاء مطولة. تميز أداء المقاومة بروح معنوية عالية وإقدام وشجاعة، مما أدى إلى نجاح دفاعي كبير وإفشال كامل لأهداف العدو في هذه الجبهة.
في المقابل، بدأ الجندي الإسرائيلي المعركة بعمليات استطلاع بالقوة، ثم لجأ إلى دمج قوات خاصة مع وحدات مدرعة. شن العدو ثماني محاولات توغل مذكورة من اتجاهات مختلفة، محاولاً عبور عيتا ورامية باتجاه تلة الدير في القوزح، لكنه واجه صعوبة بالغة في التعامل مع التضاريس المعقدة، مما جعل قواته عرضة لكمائن المقاومة. فشل العدو في تحقيق أهدافه، واضطر بعد سبعة أيام من المحاولات العقيمة إلى إنهاء المعركة والانسحاب إلى أماكن أكثر أمانًا، بعد أن "عجز عن بلوغ هدفه". وتشير الوقائع إلى أن الروح المعنوية للجنود الإسرائيليين تأثرت سلباً بالخسائر المتتالية والفشل في التقدم، حيث تكبد العدو خسائر كبيرة بلغت "أكثر من 30 قتيلاً و60 جريحاً"، بالإضافة إلى خسارة عدد من الجرافات والدبابات، منها مقتل 3 جنود من كتيبة استطلاع غولاني في كمين واحد. وانتهت المعركة بفشل ذريع للعدو في تحقيق أهدافه.
معركة مربع الموت (مركبا – حولا – رب ثلاثين – الطيبة) (خاصة 21-24 أكتوبر 2024): تحولت هذه المنطقة إلى "مصيدة ومقتلة" للفرقتين الإسرائيليتين 91 و98. يُعزى ذلك إلى استخدام المقاومة لتكتيكات الاستدراج ثم الهجوم الدفاعي، والالتحام بالقوات المتوغلة، وضرب الإمدادات والدبابات، مما أدى إلى فشل الهجمات الإسرائيلية المتكررة. خلال هذه المعركة الممتدة، اعتمد المقاتل اللبناني بشكل رئيسي على نصب الكمائن للقوات الإسرائيلية المتسللة في مناطق الطيبة والعديسة ورب ثلاثين، مع استخدام فعال للصواريخ المضادة للدروع التي دمرت دبابات العدو. طبق المقاتل اللبناني تكتيك الدفاع الثابت لاستدراج العدو، ثم التحول إلى دفاع متحرك مدعوم بنيران مدفعية وصاروخية كثيفة. كما تميز بالالتحام المباشر بالقوات المتوغلة، وضرب خطوط إمداداتها، واستهداف القوات المتجحفلة في الخلف.
نجحت المقاومة في استغلال التضاريس لنصب الكمائن وتوجيه النيران بفعالية، وتمكنت من تعطيل محاولات التسلل والتقدم الإسرائيلية، و"حشر جنود العدو" بنيرانها، محولة مناطق تقدمهم إلى "مصيدة ومقتلة". نجحت خطة استدراج العدو ثم كسر هجومه عند بلوغه الذروة، بفضل الروح المعنوية العالية والقدرة على القتال المتواصل لساعات طويلة، محققة نجاحًا دفاعيًا ساحقًا.
أما الجندي الإسرائيلي، فقد ركز جهوده على ثلاث اتجاهات رئيسية، بهدف الوصول إلى وادي الحجير وإضعاف دفاعات المقاومة. حاول التقدم عبر "مسارات غير مرئية" ولجأ إلى تفخيخ وتفجير المنازل، وهو ما اعتبرته الوقائع دليلاً على تردده وخوفه. ورغم الزج بقوات كبيرة (سرية مدمجة من دبابات وكوماندوس ومشاة) وتكرار المحاولات (11 مرة في أقل من 24 ساعة في محاور الطيبة ورب ثلاثين)، "بقي عاجزاً عن الاختراق". فشلت الفرق 91 و98 في تأمين أي تثبيت في حولا أو دخول أي جزء حيوي في مركبا رغم القصف التمهيدي الهائل. تكتيك العدو الذي اعتمد على وصول الهجوم إلى ذروته قبل أن يتعرض لنيران المقاومة المركزة أدى إلى كسر هجماته بشكل متكرر. وتشير الوقائع إلى أن الروح المعنوية للجنود الإسرائيليين تأثرت بالفشل والخسائر، حيث تكبدوا "أكثر من 18 قتيلاً وعشرات الجرحى و14 مدرعة وآلية" في هذه القرى، وانتهت محاولاتهم بـ "انكسار هجوم المثلث الشرقي".
معارك الخيام (الأولى: 28 أكتوبر - 5 نوفمبر 2024، والثانية: بدأت حوالي 16 نوفمبر 2024):
تُبرز هذه المعارك قدرة المقاومة على كشف الخداع التكتيكي للعدو، والاستعداد المسبق، وصد الهجمات المدرعة والمشاة المتعددة من عدة اتجاهات. كما يُشار إلى الاستخدام الفعال للنيران الحاصدة من مواقع مرتفعة، وتنسيق القصف المدفعي والصاروخي، مما أدى إلى تجميد مناورات العدو وفشله في احتلال الخيام. في معركة الخيام الأولى تميز أداء المقاتل اللبناني في هذه المعركة بالإطباق المعلوماتي والاستباق لخطط العدو الخداعية، حيث أعد "استقبالاً لائقاً" للقوات الإسرائيلية. تم استهداف القوة المتوغلة فوراً بصليات من الصواريخ والقذائف المدفعية، مع استهداف دقيق للدبابات بصواريخ موجهة. تعرضت دبابات وجنود العدو لنيران المقاومة بكافة الأسلحة، واستُهدفت تجمعاتهم بشكل متكرر. استغلت المقاومة ميزة الانتشار في مناطق مرتفعة لتوجيه نيران حاصدة وقصفات مدفعية وصاروخية كثيفة. وبفضل هذه "القدرات والكفاءات الإعجازية"، تم إجبار قوات العدو على الانسحاب تحت النار في المحاولة الأولى، وإلزامها بتجميد مناوراتها والاستعاضة عنها بسلاح الجو، وإرباكها وإجبارها على إعادة تجميع قواتها بشكل مستمر.
في المقابل، لجأ الجندي الإسرائيلي إلى مناورة خداعية كبيرة (سحب استعدادات من محاور أخرى للإيحاء بالانسحاب)، محاولاً استغلال الليل الحالك وأجهزة الرؤية الليلية لشن هجوم باستعداد لواء بعدة اتجاهات (جنوب، جنوب شرقي، جنوب غربي الخيام). كما حاول فتح خط قتالي جديد من منطقة الشاليهات، وتوسيع المناورة النارية مع استخدام أسلحة غير تقليدية (فوسفور أبيض، قذائف انشطارية، صواريخ حرارية وارتجاجية)، بالإضافة إلى استخدام وحدات الهندسة (ياهالوم) لتفجير منشآت مدنية. ورغم هذه المحاولات، فشلت المناورة الخداعية في تحقيق هدفها، وفشل العدو في اختراق دفاعات الخيام من عدة اتجاهات، حيث "لم تستمر المواجهة أكثر من 30 دقيقة" في المحاولة الأولى قبل أن يضطر للانسحاب. وظل "عالقاً بجنوده ودباباته في مناطق توغله" دون تحرك يذكر، وتكبد خسائر شملت مقتل طاقم دبابة ميركافا محترقة وتدمير دبابة وآلية هامر لاحقًا. وانتهت هذه المعركة بفشل ذريع للعدو، أدى إلى "تجميد كافة العمليات البرية وإدخال فرق العدو الخمسة في حالة توقف تعبوي".
معركة بنت جبيل (بدأت حوالي 2/3 نوفمبر، مع ذروة في 13 نوفمبر 2024): تُعرض كنموذج للخطة الدفاعية المتكاملة للمقاومة، المستندة إلى خبرة معارك سابقة (مثل حرب 2006 وتخطيط القائد الميداني "الحاج أبو طالب"). اعتمدت هذه الخطة على العنصر البشري الكفء، والكمائن (مثل كميني عيترون وعيناتا ضد لواء غولاني)، والقتال من نقطة الصفر، والدفاع المتحرك، مما أفشل خطط العدو ومنعه من تحقيق أي خرق.
معركة شمع – البياضة (خاصة 15-19 نوفمبر 2024): تُظهر هذه المعركة قدرة المقاومة على صد توغلات العدو المتكررة نحو المواقع الاستراتيجية (مقام شمعون الصفا والبياضة)، واستهداف الدبابات المتقدمة، وتنفيذ أعمال تعرضية، والقتال بفعالية في مثلث (الجبين-طيرحرفا-شمع). وتُعتبر دليلاً على قدرة المقاومة على إفشال محاولات السيطرة على التلال الحاكمة رغم حشد العدو لقوات كبيرة.
خاتمة:
يقدم التحليل المستند إلى سردية "معركة أولي البأس" الصورة متباينة لأداء المقاتلين. فمن جهة، يُظهر المقاوم اللبناني كفاءة عالية في تطبيق مبادئ الحرب اللامتناظرة وحرب العصابات المتقدمة، مدعومًا بمعرفة عميقة بالميدان، ومرونة تكتيكية، وقدرات استخباراتية وقيادية فعالة، بالإضافة إلى سمات معنوية وفكرية راسخة. ومن جهة أخرى، يظهر الجندي الإسرائيلي على أنه واجه صعوبات جمة في التكيف مع هذا النوع من القتال، وعانى من قصور في فهم طبيعة الخصم وبيئة العمليات، مما أدى إلى إخفاقات عملياتية وتكتيكية متكررة، وتشير المعارك الرئيسية المستشهد بها إلى أن هذه العوامل مجتمعة قد أدت، ضمن سياق هذه المعركة، إلى ترجيح كفة المقاومة في العديد من المواجهات الحاسمة.