الأربعاء 30 تموز , 2025 03:51

الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية.. بين المناورة الاستراتيجية والدافع الأخلاقي

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

أعلنت فرنسا في تموز/يوليو 2025، وعلى لسان رئيسها إيمانويل ماكرون، نيتها الاعتراف رسميًا بالدولة الفلسطينية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، ما يجعلها أول دولة من مجموعة السبع (G7) تتخذ مثل هذه الخطوة. القرار يُعدّ لحظة مفصلية وتحولاً في الموقف الغربي التقليدي، الذي طالما تمسك بشعار "حل الدولتين" دون خطوات عملية ملموسة. وقد رأت فيه جهات فلسطينية إنجازًا سياسيًا مشروعًا، في حين اعتبرته إسرائيل ومعها الولايات المتحدة "مكافأة للإرهاب" وتهديدًا مباشرًا لأمن إسرائيل.

هذا القرار الفرنسي لم يأتِ في فراغ سياسي أو قانوني، بل في خضم سياقات معقّدة: استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، اتهامات دولية بتجويع المدنيين وارتكاب جرائم حرب، جمود في المسار الدبلوماسي، وانقسامات فلسطينية داخلية مزمنة. كما تزامن الإعلان مع ضغوط داخلية فرنسية متزايدة، خاصة في ظل وجود أكبر تجمعات مسلمة ويهودية في أوروبا، واحتجاجات شعبية متصاعدة على الموقف الرسمي من الحرب في غزة.

من الناحية القانونية، استند القرار الفرنسي إلى مبدأ حق تقرير المصير المنصوص عليه في القانون الدولي، بالإضافة إلى القرار 67/19 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، والذي منح فلسطين صفة دولة غير عضو. كما اعتُبر أن الاعتراف الفرنسي قد يدفع باتجاه تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية، ويمنحها أدوات قانونية إضافية للانخراط في المؤسسات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، لملاحقة انتهاكات الاحتلال.

فرنسا ربطت اعترافها بسلسلة من الالتزامات التي قدمها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومنها إدانة هجوم 7 أكتوبر، الالتزام بإجراء انتخابات خلال عام، وإصلاح السلطة الفلسطينية. هذه الشروط شكّلت الغطاء السياسي لماكرون، وأتاحت له تبرير الاعتراف أمام معارضيه الغربيين والمحليين.

يأتي هذا الاعتراف في وقت يعاني فيه ماكرون داخليًا من أزمة سياسية خانقة، بعد أن فقد أغلبيته البرلمانية وأُذلّ سياسيًا من قبل خصومه. يرى مراقبون أن ماكرون يسعى من خلال هذه المبادرة إلى استعادة حضوره الدولي، وبناء إرث سياسي خاص به، بعد سنوات من التراجع في دوره الإقليمي والدولي.

أما على مستوى التداعيات، فهناك إجماع على أن الاعتراف الفرنسي له رمزية سياسية ودبلوماسية عالية، وقد يمنح الفلسطينيين دفعة معنوية، ويفتح أمامهم آفاقًا قانونية وسياسية جديدة. غير أنه لا يُغيّر واقع الاحتلال على الأرض، ولا يُلزم إسرائيل بأي التزامات مباشرة. وبدون دعم دولي أوسع وإجراءات ميدانية ملموسة، قد يبقى هذا الاعتراف في إطار الخطوات الرمزية غير القابلة للتنفيذ.

الرد الإسرائيلي جاء شديدًا. رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت اعتبر الخطوة "مكافأة للإرهاب"، بينما شنّت منظمات يهودية مركزية في الولايات المتحدة حملة ضغط مكثفة، داعية إلى مقاطعة لقاء مع وزير الخارجية الفرنسي احتجاجًا على الخطوة. كما اعتبرتها إدارة ترامب خطوة "استهلاكية" لا تخدم إلا "دعاية حماس".

في هذا السياق، تبدو الخطوة الفرنسية أقرب إلى مناورة استراتيجية تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي الأوروبي على خلفية المجازر في غزة، أكثر منها تحولًا مبدئيًا في السياسة الخارجية. فقد حرصت فرنسا على ألا تقطع علاقاتها مع إسرائيل، ولم تربط الاعتراف بأي آلية ملزمة لوقف العدوان أو رفع الحصار. كذلك، فإن المبادرة الفرنسية لا تُقدم جديدًا على صعيد صياغة حل جذري، بل تبدو كأنها محاولة لإحياء النموذج الإسرائيلي التقليدي القائم على "دولة فلسطينية" منقوصة السيادة، محدودة الصلاحيات، وتابعة للمنظومة الأمنية والاقتصادية الغربية.

المثير أن الاعتراف يأتي بينما تتصاعد في أوروبا احتجاجات تطالب بقطع العلاقات العسكرية مع إسرائيل ومحاسبتها على الجرائم في غزة، ما يُشير إلى احتمال أن تكون المبادرة الفرنسية وسيلة للتهرب من استحقاقات أكثر جدية، مثل العقوبات أو وقف التعاون العسكري. كما يُلاحظ أن الاعتراف لم يترافق مع أي موقف فرنسي عملي يُدين العدوان الإسرائيلي، ما يُفقده الكثير من المصداقية في عيون المتضامنين مع الشعب الفلسطيني.

في هذا الإطار، يمكن فهم الاعتراف الفرنسي كمحاولة فرنسية لإعادة التموضع في الشرق الأوسط، في ظل التهميش الأميركي المتزايد لدور باريس في الملفات الإقليمية، ولتقديم فرنسا كوسيط "عقلاني"، في حين أن مواقفها الفعلية لم تُظهر حيادًا يُذكر.

وبدلاً من أن يُستخدم الاعتراف لتكثيف الضغوط من أجل رفع الحصار وإنهاء الاحتلال، يتم توظيفه حاليًا لإعادة القضية الفلسطينية إلى المربع السابق، أي إلى مفاوضات عبثية حول "حل الدولتين"، تتجاهل جوهر الصراع، المتمثل في حق العودة، وإنهاء الاحتلال، وتفكيك منظومة الفصل العنصري.

أخيرًا، يتعيّن التنبه إلى البروباغندا الأوروبية التي تُسوّق هذا الاعتراف كـ"نصر دبلوماسي"، في حين أن الواقع على الأرض لم يتغير، والاحتلال لا يزال مستمرًا، والجرائم بحق المدنيين لم تتوقف. بل إن استمرار التواطؤ الأوروبي عبر بيع الأسلحة لإسرائيل ومنع ملاحقتها قانونيًا، يُظهر تناقضًا صارخًا بين الشعارات والممارسات.

بالخلاصة، يُعتبر إعلان فرنسا عن نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية خطوة غير مسبوقة من دولة غربية كبرى، ويحمل رسائل سياسية مزدوجة: تحذير لإسرائيل من بداية تفكك الجدار الغربي الداعم، ورسالة للمجتمع الدولي بضرورة كسر الجمود القائم. إلا أن فاعلية هذه الخطوة تبقى رهينة بعدة شروط: وحدة فلسطينية داخلية، دعم دولي واسع، وضمانات ملزمة لإنهاء الاحتلال.

ورغم ما يحمله هذا الاعتراف من دلالات قانونية وأخلاقية، إلا أنه لا يشكل قطيعة فعلية مع سياسات دعم الاحتلال، بل يبدو تحركًا محسوبًا لتقليل الخسائر السياسية أمام الرأي العام الغربي، ومناورة فرنسية لاستعادة دور سياسي في الشرق الأوسط.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور