النصر في الحروب اللامتماثلة لم يعد يُقاس بالمعايير العسكرية التقليدية، بل بات مفهومًا مركبًا يتجاوز حدود السيطرة الميدانية والتفوق العددي نحو الأبعاد الرمزية والسياسية والإدراكية. فالحروب اللامتماثلة تقوم على صراع بين أطراف غير متكافئة في القوة والإمكانات، حيث يستخدم الطرف الأضعف أدوات غير تقليدية لتعويض الفارق، مثل حرب العصابات، والكمائن، والضغط النفسي والإعلامي. في هذا النوع من الحروب، لا يكون الهدف هزيمة العدو عسكريًا بقدر ما يكون إرهاقه واستنزاف إرادته السياسية وتحويل الحرب إلى عبء دائم عليه.
في هذا الإطار، يرى كلاوزفيتز أن النصر هو وسيلة لتحقيق الغاية السياسية، لا غاية بحد ذاته، وهو في الحروب اللامتماثلة يتجسد عندما ينجح الطرف الأضعف في تعديل سلوك خصمه أو منعه من تحقيق أهدافه، حتى لو خسر المعركة ميدانيًا. أما مايكل غريفين وفان كريفيلد فيعتبران أن النصر في هذا النوع من الصراعات لا يُقاس بنتائج عسكرية مباشرة، بل بمدى تحقق الأهداف السياسية والاستراتيجية. ويؤكد دانيال ريجز أن النصر في الحروب اللامتماثلة هو "انتصار إدراكي" أكثر من كونه عسكريًا، لأن جوهره يكمن في تغيير نظرة الخصم إلى جدوى الاستمرار في الحرب. كذلك، يشير إيفان أريغوين توفت إلى أن الضعفاء غالبًا ما ينتصرون حين يتبنّون أساليب مغايرة لخصومهم الأقوياء، حيث يُربح الصراع عندما تكون الاستراتيجية غير متماثلة.
تتعدد أبعاد النصر في هذا النوع من الحروب. فالبعد الإدراكي يتمثل في قدرة أحد الأطراف على فرض تصوره للواقع على الآخر وإقناعه بعدم جدوى الاستمرار. أما البعد البنيوي فيرتبط بتغيير البيئة السياسية والاجتماعية التي تغذي الصراع، والبعد الزمني يعكس أهمية الصبر واستغلال عامل الوقت كسلاح استراتيجي. إلى جانب ذلك، يُعد البعد الاقتصادي أداة ضغط غير مباشرة، إذ يجبر الخصم القوي على إنفاق موارد ضخمة في مواجهة تهديدات صغيرة الحجم، بينما يبرز البعد الرمزي والنفسي كعامل حاسم يمنح الطرف الأضعف شرعية ودعمًا محليًا ودوليًا.
يتحقق النصر عندما يتمكن الطرف الأضعف من فرض تعريفه الخاص للنجاح، والتحكم بإيقاع الصراع، وتحقيق أهداف سياسية بتكاليف محدودة، واستنزاف إرادة الخصم. أما أنماط النصر فتتوزع بين النصر الرمزي الذي يعيد تعريف مفاهيم الكرامة والصمود، والنصر الإدراكي الذي يغيّر قناعات الخصم، والنصر الاستراتيجي المؤجل الذي يترجم لاحقًا في تحولات سياسية أو إقليمية عميقة. أدوات هذا النصر تشمل المرونة، التكيّف، استغلال التضاريس، الحرب النفسية، حرب السرد، الصبر الطويل، ونزع الشرعية عن الخصم.
تُظهر دراسات الحالة — من فيتنام وأفغانستان إلى لبنان وغزة — أن الطرف الأضعف يستطيع تحقيق انتصارات استراتيجية رغم الخسائر الميدانية. ففي فيتنام، أجبرت حرب العصابات الولايات المتحدة على الانسحاب رغم تفوقها العسكري. وفي أفغانستان، استعاد طالبان السيطرة بعد عقدين من القتال. وفي حرب تموز 2006، استطاع حزب الله الصمود وحرمان العدو من تحقيق أهدافه رغم التدمير الواسع. أما في حرب الإبادة على غزة (2023–2025)، فقد برزت المقاومة الفلسطينية نموذجًا للنصر اللامتماثل من خلال قدرتها على البقاء، واستنزاف العدو سياسيًا واقتصاديًا، وكسب التعاطف الدولي، وفرض شروطها في الهدن والتفاوض. ورغم حجم الدمار والخسائر، لم يتمكن الكيان الصهيوني من القضاء على المقاومة، بل وجد نفسه أمام أزمة داخلية متفاقمة وعزلة دولية متزايدة.
إن النصر في هذا السياق نسبي لا مطلق، وهو عملية تراكمية تقاس بمدى تآكل إرادة العدو، وتحول موازين الإدراك، واستدامة الصمود. فالمقاومة التي تفرض إيقاع الحرب وتستمر رغم الخسائر تحقق نصرًا استراتيجيًا حتى لو لم تنتصر ميدانيًا. وبذلك يتحول ميزان الردع من التفوق المادي إلى إرادة البقاء، وتصبح الشرعية والسردية أدوات قتال موازية للسلاح.
الخلاصة أن مفهوم النصر في الحروب اللامتماثلة يعيد تعريف جوهر القوة نفسها: فالنصر ليس تدمير العدو بل منعه من تحقيق أهدافه. وهو لا يُنتزع بالقوة النارية، بل بالإرادة، والمرونة، والقدرة على تحويل الحرب إلى معركة معنى وشرعية وصبر. فالطرف الذي يفرض روايته ويُبقي قضيته حية في الوعي العام هو المنتصر الحقيقي، حتى وإن كان أضعف عسكريًا.
الكاتب: غرفة التحرير