في مقر الوساطة نفَّذت "إسرائيل" ضربتها، حيث استهدفت وفداً من حركة حماس كان يُعنى بالمفاوضات حول وقف النار في قطاع غزة. وقالت الحركة إن الوفد الذي كان بقيادة رئيس المكتب السياسي خليل الحية في الدوحة قد نجا، فيما استشهد آخرون بينهم نجل الحية. هذا الاستهداف، ومعه التسريبات والتقارير الإسرائيلية والأجنبية، أعاد طرح سؤال مكرر لكنه في جوهره مضلل: هل تمت الضربة "بعلم الولايات المتحدة أم دون علمها"؟
ففي كل مرة ينفذ الكيان عملية مماثلة، يتصدّر النقاش ما إذا كانت واشنطن قد أُخبرت مسبقاً. غير أن هذا التفصيل، الذي يشغل المتابعين والإعلام على السواء، لا يغيّر من حقيقة أن الاعتداء على أي دولة لا يمكن تبريره أو شرعنته. وبطبيعة الحال، فإن الولايات المتحدة تكون على علم مسبق بأي عملية حتى لو قالت التصريحات غير ذلك؛ وحتى إذا افترضنا أن تل أبيب لم تُبلغ واشنطن، فوجود قواعدها الممتدة على طول الخليج وقدراتها الواسعة في الرصد والاستخبارات كفيل بالكشف عن أي عملية أو تحرك عسكري. لذلك يصبح هذا النقاش ثانوياً، فيما الجوهر الذي يجب التركيز عليه يكمن في أبعاد الضربة نفسها وما تكشفه من رسائل.
الفكرة التي يجب تسليط الضوء عليها هي أن الضربة تناقض منطق الحلّ الدبلوماسي، فالهدف كان مقراً يُنظر إليه كمنصة وسيط لإنهاء الحرب. فكيف يضرب الكيان منطقة وساطة إذا كان فعلاً يرغب بخيار دبلوماسي؟ أما استخدام القوة تحت ذريعة "القضاء على الإرهاب" أو الرد على عمليات المقاومة في الضفة الغربية" ضد وسيط فيعكس هدفاً واضحاً يتمثل في تقويض أي قنوات تفاوضية قد تؤدي إلى حل يُنهي الوضع القائم، لأن حالة عدم الحسم تخدم مصالح القيادة الإسرائيلية الحالية.
لا حصانة ولا ضمانات
ما تكشفه هذه الضربة أيضاً أن مفهوم "الحياد الآمن" للدول العربية المقربة من تل أبيب هشّ. إذا كانت الدوحة — التي لعبت دور الوسيط — قابلة للضرب، فليس هناك منطق يمنح دولاً أخرى حصانة تلقائية لمجرد تبنيها سياسات "حيادية". وهذا ليس نهجاً جديداً تتبعه تل أبيب كما تظن الدول العربية بل هذا أصل الفكر الصهيوني الذي يقضي بتحقيق الأهداف حيثما وجدت القدرة والفرصة. إلا أن التجاهل العربي عن نوايا الكيان أعمته عن هذا الجانب وجعلته يظن أنه في مأمن. حيث تثبت الوقائع اليوم أنه ليس من الصعب أن يتوسّع نطاق الاعتداءات الإسرائيلية ليشمل القاهرة أو أي عاصمة تعتقد نفسها بمنأى وهو ما يعرض سيادة الدول العربية وسلامة مواطنيها للخطر.
تبدل الأولويات ماذا عن ملف الرهائن؟
أشارت تصريحات إسرائيلية وخارجية إلى أن توقيت الضربة يضع ملف الرهائن في مرمى الخطر؛ وهذا ما حذر منه عضو حزب المعارضة الإسرائيلية يائير غولان من أن "توقيت العملية يهدد مصير الرهائن". ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن والدة الأسير إلكانا بوحبوط، تعبيرها عن "قلقها المتزايد عقب العملية وفقدان الأمل في عودته". من جهة أخرى، بينما صرح السفير الإسرائيلي لدى واشنطن على عزم "إسرائيل" في ملاحقة قيادة حماس، وقال "إن لم تنجح العملية هذه المرة فستنجح في المرة المقبلة". كل هذا يشير إلى أن ملف الأسرى في قطاع غزة لم يعد عاملاً مهماً في اتخاذ القيادة الإسرائيلية لقراراتها حالياً، وأن الأولوية لتنفيذ مخططات نتنياهو ولو كانت على حساب حياة الأسرى وجيش الاحتلال التي لا تشكل أي قيمة لدى نتنياهو.
الضربة في الدوحة تزيد من احتمالات الانزلاق الإقليمي، إذ إنها دمّرت ثقة الوسطاء وعززت استحالة نجاح المفاوضات. وهذا يفرض على الدول العربية ومؤسسات الوساطة توحيد موقف دبلوماسي واضح يرفض النهج الذي تعتمد عليه "إسرائيل"، إلى جانب إعادة تقييم آليات حماية الوفود السياسية التي تمثل حركات المقاومة. كما أن التركيز على سؤال "إبلاغ واشنطن" لا يكفي، بل المطلوب هو مساءلة جدية عن الخسائر التي تخلّفها مثل هذه العمليات. وعليه، فإن الضربة مؤشر على أن قيادة تل أبيب الحالية تعمل وفق منطق "تحصيل الأهداف بأي ثمن"، وأن استمرار الوضع الراهن قد يوسّع رقعة المواجهة ويقوّض كل الجهات التي تحاول وقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال ضد قطاع غزة بتغطية أميركية ودولية.
الكاتب: غرفة التحرير