التقارير والتحليلات التي تراكمت منذ نهاية عام 2023 وحتى خريف 2024 كشفت عن أن العملية البرية الإسرائيلية في لبنان لم تكن مجرد خطوة عسكرية محدودة تهدف إلى "تأمين المستوطنات" كما تم الترويج لها، بل كانت نتاج نوايا استراتيجية أعمق تسعى إلى إحداث تغيير جذري في الواقع الأمني القائم. فوفقاً للمعطيات المجمعة من مصادر إعلامية وتحليلية متعددة، تبيّن أن الهدف الحقيقي تمثل في فرض “منطقة عازلة” داخل الأراضي اللبنانية بعمق يتراوح بين عشرة إلى ستة عشر كيلومتراً، بما يضمن لإسرائيل تفوقاً أمنياً طويل الأمد ويضعف من قدرات حزب الله على تهديد الشمال الإسرائيلي.
توضح المعطيات أن النية الإسرائيلية لم تقتصر على حماية الحدود، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة قلب المعادلة الإقليمية وخلق واقع أمني جديد يحد من نفوذ إيران وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله. وقد صاغ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الرؤية في خطط لغزو أوسع نطاقاً يهدف إلى تدمير البنية التحتية للحزب وإعادة رسم ميزان القوى الإقليمي. لكن هذه النوايا اصطدمت بعوائق ميدانية كبيرة فرضتها المقاومة الإسلامية، ما أجبر الجيش الإسرائيلي على تقليص طموحاته وتحويل العملية إلى توغل محدود النطاق داخل الجنوب اللبناني.
أبرزت التقارير أن العقبات البرية كانت متعددة، أهمها قسوة البيئة القتالية وصعوبة التضاريس الجبلية في الجنوب، إلى جانب فاعلية تكتيكات حزب الله القتالية التي تعتمد على حرب العصابات والكمائن والأنفاق. كما أشارت مصادر إسرائيلية إلى أن القوات المهاجمة لم تتمكن من التوغل أكثر من خمسة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية، واكتفت بالانتشار على شكل مجموعات صغيرة على طول الحدود بدلاً من تنفيذ اجتياح واسع. هذا التراجع العملي عكس فجوة واضحة بين الطموح الاستراتيجي الإسرائيلي والقدرة العملياتية على الأرض.
في المقابل، كشفت النقاشات داخل المجلس الوزاري الإسرائيلي عن انقسام حاد بين من أراد المضي قدماً في العملية لتحقيق عمق أمني دائم، وبين من فضّل التوصل إلى تسوية سياسية تضمن وقف إطلاق النار دون الخوض في حرب استنزاف مكلفة. ومع تزايد الضغوط الأميركية والدولية، مالت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نحو خيار التسوية بدلاً من المغامرة بتوسيع العملية، خصوصاً مع المخاوف من صدور قرار دولي يقيّد حرية العمل العسكري.
وتشير التقارير الغربية، مثل تلك الصادرة عن "إن بي سي" و"الإيكونوميست" و"واشنطن بوست"، إلى أن إسرائيل كانت تهدف فعلاً إلى إقامة منطقة عازلة بعمق يتراوح بين عشرة وستة عشر كيلومتراً داخل لبنان، في حين كانت بعض الأوساط الأمنية تتحدث عن إمكانية دفع قوات حزب الله إلى شمال نهر الليطاني لخلق عمق أمني أكبر. كما أظهرت تصريحات وزير الحرب يوآف غالانت وقيادات ميدانية أن الخطة كانت تشمل "مناورات هادئة" لتدمير البنية التحتية القتالية لحزب الله قبل الإعلان الرسمي عن العملية.
لكن مع اندلاع المواجهات وارتفاع الخسائر، استعاد الإسرائيليون ذكريات حرب 2006 وما رافقها من إخفاقات عسكرية وميدانية. فقد وُصفت المقاومة اللبنانية بأنها "عدو مرن وعنيد"، قادرة على امتصاص الصدمات وتكبيد العدو خسائر فادحة، مما زاد من تردد القيادة السياسية في استكمال التوغل. جنود إسرائيليون احتياطيون اعترفوا بأن "حزب الله أقوى بكثير وأكثر تدريباً من ذي قبل، والظروف الجغرافية أصعب بكثير من غزة".
وفي ظل هذا الواقع، فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها الأقصى المتمثل في فرض منطقة عازلة دائمة أو تدمير شامل لبنية حزب الله، واضطرت إلى الاكتفاء بعمليات محدودة النطاق تركز على تطهير نقاط حدودية ومهاجمة أهداف موضعية. أما الهدف الاستراتيجي الأبعد، المتمثل في إضعاف نفوذ إيران وإعادة تشكيل التوازن الإقليمي، فقد بقي حبراً على ورق أمام صمود المقاومة اللبنانية وقدرتها على إدارة معركة طويلة النفس.
في النهاية، تكشف العملية البرية الإسرائيلية في لبنان عن مزيج من الطموح السياسي والقيود الواقعية، وعن محاولة فاشلة لتحويل الهجوم المحدود إلى إنجاز استراتيجي يغير وجه المنطقة. لقد أرادت إسرائيل أن تفرض واقعاً جديداً بالقوة، لكنها وجدت نفسها محاصرة بين حسابات الأرض والضغط الدولي وصمود المقاومة، ما جعل حملتها تتحول من "غزو استراتيجي" إلى "مأزق تكتيكي" يعيد إلى الواجهة مأساة 2006 بكل دروسها المؤلمة.
الكاتب: غرفة التحرير