الجمعة 19 أيلول , 2025 03:37

لبنان بين الارتهان والتحرر: رؤية لاستعادة السيادة الوطنية

العلم اللبناني

تُعتبر السيادة الركيزة الأولى لأي دولة تسعى إلى حماية استقلالها وحرية قرارها. غير أنّ التجربة اللبنانية أظهرت أن السيادة لم تكن سوى مبدأ نظري، إذ تعرضت منذ عقود لتفكيك ممنهج بفعل تدخلات خارجية وانقسامات داخلية، جعلت القرار الوطني مرتهناً لتوازنات إقليمية ودولية، ولتجاذبات محلية عاجزة عن بناء توافق جامع.

أبرز ما قوض السيادة اللبنانية كان الوصاية المالية، حيث تحوّل الاقتصاد إلى رهينة لصندوق النقد الدولي والدول المانحة، فارتبطت المساعدات والقروض بشروط تقشفية وخصخصة، فيما حوصرت فئات اجتماعية بعقوبات مصرفية طالت جمعيات ومؤسسات خدمية. وإلى جانب ذلك، فُرضت على لبنان اتفاقيات إكراهية كتسوية الطائف التي كرّست الوصاية السورية – السعودية، أو اتفاق 17 أيار الذي حاول فرض التطبيع مع الاحتلال، وصولاً إلى اتفاقيات القروض والترسيم البحري التي جاءت تحت ضغط مباشر من الولايات المتحدة.

السيادة السياسية بدورها تعرضت للانتقاص من خلال التدخل في انتخاب الرؤساء والحكومات، حيث غالباً ما حُسمت الترشيحات بضغط خارجي أكثر من تعبيرها عن إرادة لبنانية خالصة. أما في ملف الغاز والنفط، فقد تجسّد التبعية بشكل صارخ عبر الترسيم البحري الذي قيّد حقوق لبنان، ومنع استثماره لثرواته مقابل إطلاق يد إسرائيل في استغلال مواردها. وإلى جانب ذلك، مُنع لبنان من قبول الهبات الشرقية سواء من إيران أو الصين أو روسيا، فظلّ أسير المنظومة الغربية، ما حرمه من بدائل إنقاذية حقيقية في أزماته.

أما على مستوى المؤسسات، فقد تعمّق النفوذ الأميركي في الجيش عبر المساعدات المشروطة والتدريب، وفي القضاء من خلال الضغوط في ملفات حساسة كالمرفأ والمصارف، وفي الأجهزة الأمنية التي تحولت بعض وحداتها إلى أذرع لسياسات خارجية. كما تكرّست التبعية عبر التحويلات المالية المباشرة للجيش التي جعلت استقراره مرهوناً بالمساعدات. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ تدخلت واشنطن في قرارات وزارية حيوية، مثل الطاقة والمالية والنقل، ومنعت أي توجه نحو تنويع مصادر الدعم أو فتح خطوط بديلة للطيران والوقود.

فوق هذا كله، بقي الاحتلال الإسرائيلي أبرز انتهاك مباشر للسيادة عبر استمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والخروقات الجوية والبحرية اليومية. وقد تزامن ذلك مع توسع عمليات التجسس التقني والبشري التي استهدفت شخصيات ومؤسسات لبنانية، لتتحول السيادة إلى فضاء منتهك بالكامل. كما شكّل ملف النازحين السوريين أداة ضغط خارجي، حيث فُرض على لبنان إبقاؤهم دون قدرة على رسم خطة عودة، فيما استُخدمت المنظمات المدنية الممولة من الخارج للتأثير على الرأي العام والسياسات. ولم تكن الانتخابات بمنأى عن هذا التدخل، إذ جرى تمويل قوى محددة ومراقبة الحملات والبلديات بما يخدم مصالح خارجية.

أمام هذا المشهد، تطرح الدراسة المرفقة أدناه، رؤية وطنية لاستعادة السيادة تقوم على مشروع متكامل، يبدأ من تحصين القرار المالي والاقتصادي عبر تنويع الشراكات نحو الشرق والغرب معاً، وتفعيل القطاعات الإنتاجية المحلية لتقليل التبعية. كما تدعو إلى إعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة تحت الضغط، وصياغة عقود جديدة تخضع لمراجعة برلمانية ورقابة وطنية.

على المستوى السياسي، تبرز ضرورة تحرير العملية الانتخابية من التدخل الخارجي، وضمان أن انتخاب الرؤساء والحكومات يعكس إرادة اللبنانيين وحدهم. وفي ملف الطاقة، يُقترح إنشاء صندوق سيادي شفاف يدير عائدات النفط والغاز بعيداً عن التجاذبات، فيما يُفترض أن يقبل لبنان الهبات من الشرق وفق آلية شفافة تحميها من الضغوط.

أما المؤسسة العسكرية، فيجب تحييدها عن الارتهان للمساعدات المشروطة، عبر تمويلها محلياً وتنويع مصادر تسليحها بما يضمن حرية قرارها الدفاعي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وفي المقابل، ينبغي تعزيز استقلالية القضاء عبر مجلس قضائي مستقل مالياً وإدارياً، محمي من التدخلات السياسية والدبلوماسية.

في ميدان الأمن، يشدد المشروع على حماية المجال السيبراني والاتصالات بقدرات وطنية، ووقف تبعية الأجهزة الأمنية للتجهيزات الخارجية. كما يقترح تنظيم المجتمع المدني بفرض شفافية كاملة على التمويل الأجنبي ودعم منظمات تنبع من حاجات الداخل لا من أجندات المانحين.

وفي ما يخص النازحين السوريين، ندعو إلى وضع خطة وطنية للعودة المستدامة بالتنسيق مع دمشق، ومواجهة الضغوط الغربية بخطاب حقوقي يؤكد أن العودة حق إنساني وسيادي. أما على الصعيد الخارجي، فترى الدراسة أن على لبنان انتهاج دبلوماسية متوازنة تقوم على الانفتاح على الجميع دون الانخراط في المحاور، بما يتيح حماية المصالح الوطنية ويعيد الاعتبار لدور لبنان في محيطه العربي والدولي.

في الخلاصة، تؤكد الورقة أنّ استعادة السيادة ليست شعاراً سياسياً بل برنامجاً عملياً متعدّد الأبعاد: قانوني ومؤسسي، اقتصادي ومالي، أمني ودبلوماسي. وهي معركة بقاء وهوية، لا يمكن كسبها إلا بإرادة وطنية صلبة، قادرة على تحويل لبنان من دولة مرتهنة إلى دولة مستقلة القرار والسيادة.

لتحميل الدراسة من هنا


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور