إن مسالة الصراع بين إيران وأمريكا هي قضية جذرية يمكن تحليلها على المستوى الخطابي ومستوى النظام الأسطوري أكثر من اعتبارها سياسية بحتة؛ لأن مستوى هذا التحدي أعمق بكثير من المظاهر السطحية المرئية في مجال السياسة اليومية؛ حيث إذا نظرنا إلى تاريخ السياسة الخارجية لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، سنرى أن الأحادية كانت مبدأ ثابتاً في سلوك السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فقد اتجهت هذه الدولة نحو نموذج عملي "لعقاب جماعي" لأي أمة تقاوم رغباتها.
وأوضح مثال على ذلك ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث فرض الأمريكيون نوعاً من العقاب والإذلال الجماعي على هاتين الأمتين عقاباً على سلوكهما ودورهما في فترة الحرب؛ بدءاً من صياغة الدستور الياباني ووصولاً إلى تنفيذ سياسة إزالة التصنيع في ألمانيا. لكن هذه السياسة لم تستمر طويلاً بسبب تغير إحداثيات النظام في الساحة الدولية مثل وقوع الحرب الباردة والتحولات السياسية والعسكرية في شرق آسيا، بما في ذلك انتصار الشيوعيين في الصين أو نشوب الحرب الكورية، ونشهد كيف تم تعديل هذه السياسات بسرعة واتجهت أمريكا من خلال تنفيذ مشروع مارشال واستثمار عشرات المليارات من الدولارات في أوروبا إلى دمج هذه الدول في النظام الليبرالي الرأسمالي الأمريكي. في الواقع، الدول التي لا تنسجم مع منطق الهيمنة للنظام الليبرالي تواجه مصيراً صعباً، حيث أن الطريقة الوحيدة المقبولة للقبول في هذا النظام هي الخضوع الكامل لقواعد ومعايير النظام الأمريكي. وهذا لا يعني فرض سياسة غير مرنة ومتصلبة، بل هناك درجة من الحرية للأمم في قبول معايير النظام الأمريكي، لكن رفض المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية كان مكلفاً لهذه الأمم، كما نشهد خلال الأشهر الأخيرة فرض سياسات ضريبية صارمة من قبل إدارة ترامب تجاه مجموعة كبيرة من الدول.
اختلاف الأمة الإيرانية عن بقية الأمم في مواجهة أمريكا
وأما اختلاف الأمة الإيرانية عن بقية الأمم في مواجهة أمريكا فهو أن الأمة الإيرانية قاومت الاندماج في النظام الأمريكي ولم تتراجع عن مبادئها، حيث أن الحرب المفروضة لمدة 8 سنوات من قبل الحكومة البعثية العراقية، بكل تكاليفها البشرية والمادية، سميت عند الإيرانيين بالدفاع المقدس.
ومن منظور فلسفة السياسة أيضاً،كما تتحدث حنة آرندت في كتابها "أيخمان في القدس" عن مفهوم "ابتذال الشر"، يظهر هذا المبدأ والمنطق في سلوك الإمبريالية؛ حيث تستهدف القوى المهيمنة الأمم كأهم دعم للنظام القائم بسياسات عقابية حتى تزول روح المقاومة فيها. وبعبارة أخرى، تفرض القوى المسيطرة ضغوطاً على الأمم حتى تستسلم. فقط عندها يفتح طريق التنمية والنمو الاقتصادي أمامهم.
لكن في حالة إيران الإسلامية يختلف الأمر كثيراً؛ مجتمع أصر على الحفاظ على كرامته واستقلاله وواجه في المقابل أشد نظام عقوبات. وفي أحداث ما بعد حرب الـ12 يوماً أيضاً رأينا أن العامل الرئيس لفشل الأعداء كان هذا التصميم والمقاومة الباسلة للشعب؛ دفاع الإيرانيين عن الأمة والقومية والنظام وهويتهم. هذا هو العامل الذي أحبط كل مخططات العدو. والعقوبات هي الوجه الآخر لعداء واستمرار نفس السياسة التاريخية "لعقاب الأمم جماعياً"؛ أمة تطلب استقلالها في مواجهة منطق القوة والسيطرة. وبعبارة أخرى، رغم أن أمريكا قد تدعي ظاهرياً في خطابها وسياساتها أنها لم تستهدف المجتمع الإيراني بعقوباتها وأنها فقط تسعى لمعاقبة النظام السياسي الحاكم، وبناءً على هذه السياسة أعلنت مراراً أن المجالات الإنسانية مثل الأدوية والمعدات الطبية مستثناة من العقوبات، إلا أن أمريكا عملياً أنشأت هيكلاً معقداً من العقوبات يستهدف صحة المجتمع بشكل غير مباشر. حيث أن العقوبات المالية والمصرفية وقطع الاتصال بشبكة سويفت وزيادة مخاطر تعامل البنوك والشركات الأجنبية مع إيران، جميعها تجعل الوصول إلى الأدوية والمعدات الطبية صعباً. كما أن عقوبات قطاع الطاقة أو القيود على الملاحة الإيرانية، وفقاً للقرار 1929 لمجلس الأمن في عام 2010، أدت إلى انخفاض إيرادات الحكومة وبالتالي نقص الميزانية في مجال الصحة والعلاج. من جهة أخرى، فإن عقوبات مؤسسات مثل مؤسسة العلوي التي كانت نشطة في مجال توفير الأدوية والمعدات الطبية، أثرت عملياً بشكل مباشر على مرضى الأمراض الخاصة بما في ذلك المصابين بالثلاسيميا والتصلب المتعدد والناعور والسرطان. في نفس الوقت، فإن عقوبات الملاحة والتأمين تمنع استيراد الأدوية والمعدات. حتى إذا تمكنت إيران من توفير الأدوية من طرق غير مباشرة وبكلفة مضاعفة، فإن نقلها لا يزال يواجه مشاكل. في فترة كورونا أيضاً شاهدنا كيف واجهنا عوائق كثيرة في توفير اللقاحات وأجهزة التنفس والمعدات الوقوية والمواد الأساسية من قبل الآلية الدولية یسمی "كوفاكس". لذلك فإن الهدف الرئيس لأمريكا من هذا النظام الصارم من العقوبات هو إجبار الأمة الإيرانية على التراجع عن مبادئها وهويتها واستقلالها، وطالما أن هذه الأمة لا تستسلم، ستستمر السياسات العدائية الأمريكية.
سلوك إيران مع أمريكا؛ نموذج جيبي لكن قائم على المبادئ
لم يكن خطاب المواجهة أو سياسة التصدي لأمريكا في جمهورية إيران الإسلامية، خاصة في الأشهر الأولى بعد انتصار الثورة الإسلامية، خطاباً موحداً ومتجانيساً. في تلك الفترة التاريخية، يمكن تمييز ثلاثة تيارات فكرية سياسية رئيسة داخل الثورة الإسلامية في العلاقة مع أمريكا؛ التيار الأول كان القوى الوطنية–الإسلامية وحركة الحرية الذين مثلوا الحكومة المؤقتة، ولم يكن موقفهم صريحاً بمعاداة أمريكا وكانوا يتبعون سياسة تسمى "عدم الانحیاز المصدقي".
حكومة المهندس بازرگان المؤقتة، استناداً إلى استراتيجية "لا شرقية ولا غربية، جمهورية إسلامية"، سعت لتجنب الاعتماد على أي من كتلي القوة الشرقية والغربية. في هذا الإطار، أدت إجراءات مثل إلغاء بعض بنود معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، وإلغاء بعض عقود شراء الأسلحة مع أمريكا، وإزالة القواعد الاستخباراتية وأجهزة التنصيب التابعة للولايات المتحدة، إلى قطع التعاون الأمني والعسكري مع الغرب والشرق. هذه السياسة كانت نوعاً من المحاولة للحفاظ على الاستقلال السياسي في الفضاء الدولي ثنائي القطبية آنذاك.
التيار الثاني كان الجماعات اليسارية الماركسية والاشتراكية التي كانت بمنهج أيديولوجي - سياسي، تعتبر معادية لأمريكا بشكل مطلق. والتيارات مثل حزب تودة والأحزاب اليسارية كانت من هذا الطيف التي كانت في إطار فكرها المادي وغير الإلهي، تفسر وتتبع المواجهة مع أمريكا في إطار الصراع الطبقي ومناهضة الرأسمالية.
التيار الثالث كان الإسلاميين والقوى التابعة لخط الإمام الخمیني، الذين لم تكن نظرتهم لأمريكا مبنية على أيديولوجية سياسية بحتة، بل مستندة إلى أسس دينية وإلهية. في هذه الرؤية، كانت أمريكا رمزاً للاستكبار العالمي ومصداقاً واضحاً للظلم والسيطرة. هذا التيار عرّف التعامل مع أمريكا ليس من موقع الكراهية السياسية، بل في إطار الكفاح ضد الاستكبار والدفاع عن الاستقلال الوطني وكرامة الأمة الإسلامية.
في الواقع،كما يطرح في نظرية الحقول الخطابية "بير بورديو"، كانت الحقول الخطابية المذكورة في تلك السنوات، في حالة من المنافسة والتبادل المستمر. هذه المنافسة الخطابية تحت تأثير الأحداث السياسية والاجتماعية – بما في ذلك أحداث السنوات 58 إلى 60 الشمسي/ ۱۹۸۰ - ۱۹۸۲ میلادی، مثل احتلال السفارة الأمريكية، ومؤامرات الانفصاليين والاضطرابات الداخلية، أدت إلى تهميش بعض هذه الخطابات وهيمنة الخطاب الأصولي للثورة الإسلامية، أي خطاب "مناهضة الاستكبار والاستقلالية الدينية". فلذا، استقالة الحكومة المؤقتة، وحل التيارات اليسارية، وبداية الحرب المفروضة، مهّدت لسيطرة أكبر لهذا الخطاب الأصولي والأسسي في الفضاء السياسي الإيراني. منذ ذلك الحين، تشكلت سياسة جمهورية إيران الإسلامية تجاه أمريكا على أساس الثوابت الأساسية للثورة، أي نفي الخضوع للسيطرة، والاستقلال، والحفاظ على الكرامة الوطنية، والمقاومة في وجه طلبات الهيمنة. رغم الثبات في الأسس، في المجال العملي وفعل السياسة الخارجية، كانت طريقة المواجهة مع الغرب في فترات مختلفة من عمر الجمهورية الإسلامية مصحوبة بتقلبات. على سبيل المثال، في عقد السبعينات، حكومة الإعمار بقيادة آية الله هاشمي رفسنجاني، بهدف سياسة إعمار البلاد بعد الحرب، سعت لسياسة تخفيف التوتر في العلاقات الخارجية وتطبيع مجال فعل إيران على مستوى النظام الدولي. في نفس هذه الفترة، بدأت حوارات نقدية مع أوروبا كانت تهدف غالباً إلى تعديل الأجواء وكسر الحصار السياسي. في الفترة اللاحقة، تزامن وصول الحكومة الديمقراطية في أمريكا (بيل كلينتون) وحكومة الإصلاح في إيران (السيد محمد خاتمي) أدى إلى تشكل ظاهري لفضاء "للحوار والتفاعل"؛ لكن السياسات العدائية الأمريكية لم تتغير عملياً أبداً. في الحكومات اللاحقة، هذه التقلبات نشأت فترات مختلفة من التشديد أو التلطيف. في فترة السيد أحمدي نجاد أيضاً، بسبب المواقف الصريحة وأحياناً الراديكالية تجاه أمريكا ونظام الهيمنة، بلغت المواجهة مع الغرب ذروتها. في فترة السيد روحاني بالمفاوضات البرغامية، خفّت حدة التوتر إلى حد ما، لكن مع انسحاب أمريكا الأحادي من البرغام من قبل إدارة ترامب في عام 2015، ظهر الوجه الحقيقي وغير الموثوق لأمريكا مرة أخرى. في حكومة السيد رئيسي، اتبعت السياسة الأصولية للحكومة في إطار "الدبلوماسية المتوازنة" والتأكيد على تحييد العقوبات رغم أنه لم يحصل اختلاف جدي في النهج المواجهي مع أمريكا.
في الحكومة الحالية أيضاً، رغم بعض الجهود للحوار وخفض مستوى التوتر، أظهرت الإجراءات العدائية الأمريكية، بما في ذلك الهجمات الأخيرة على المراكز النووية واغتيال كبار القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين وكذلك مساندتها للنظام الصهيوني في المواجهة الدموية مع المقاومة الإسلامية اللبنانية والفلسطينية واليمنية، أن طبيعة عداء أمريكا مع الأمة الإيرانية ومنطق المقاومة لم يتغير.
بشكل عام، يمكن اعتبار سلوك جمهورية إيران الإسلامية في فترة ما بعد الحرب المفروضة نموذجاً جيبي لكن قائماً على المبادئ، بينما منطق وطبيعة السياسة الخارجية الأمريكية ضد إيران كانت دائماً قائمة على نوع من الخوف من إيران وسياسات المؤامرة؛ مع هذا، في ما يتعلق بمنطق فعل إيران نشهد نوعاً من الثبات الأساسي؛ بمعنى أنه رغم وجود تقلبات في التكتيكات والطرق، لكن في الأسس والمبادئ، لم يحصل أي انحراف عن مبادئ الثورة الإسلامية. السياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية تقوم على ثلاثة مبادئ: الكرامة والحكمة والمصلحة. التطورات التاريخية مثل الاغتيال للشهيد القائد قاسم سليماني، وخروج أمريكا من الاتفاق النووي، والإجراءات العدوانية لواشنطن في حرب الـ12 يوماً وخيانتها الواضحة لطاولة الدبلوماسية، جميعها مصاديق لاستمرار السياسات العدائية الأمريكية ضد الأمة الإيرانية. هذه الأحداث جعلت الصورة الحقيقية لأمريكا كمصداق "للاستكبار العالمي" وحكومة غير موثوقة، تتجلى وتترسخ أكثر للرأي العام.
نظرة جمهورية إيران الإسلامية إلى مجال النظام الدولي المعاصر، رغم كل الضغوط والعداء، كانت دائماً قائمة على منطق عقلاني. وبناءً على هذا، أكدت جمهورية إيران الإسلامية دائماً على الحوار مع الأمم، وتعددية الأطراف، والتعاون الإقليمي، والتفاعل البناء مع الدول والعلاقات القائمة على مبدأ الاحترام المتبادل. لكن ما جرب في العقود الأربعة الماضية، يظهر أن سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران كانت منذ البداية قائمة على العداء والتدخل. حتى في الأشهر التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية، رغم بعض الأصوات الضعيفة مثل بعض الشخصيات الأمريكية الواقعية مثل "وليام سوليفان"، آخر سفير أمريكي في طهران، الذي كان يرى الثورة ظاهرة حتمية وسعى للاتصال بالقوى المؤثرة في النظام الجديد، لكن عملياً، التيار السائد في المنطق الأمريكي والنظام السياسي الأمريكي اختار طريق العداء والعقوبات والضغط. طريق يظهر التحليل التاريخي له أن أمريكا رغم معرفتها الواقعية بإيران، لا تزال تظهر سياسة عدائية بنوع من الازدواجية في سلوكها.
ازدواجية السياسة الأمريكية وترسيخ معاداة إيران
الازدواجية في السياسة الأمريكية، سواء قبل الثورة أو بعدها، واضحة. كمثال، ساعد احتلال السفارة الأمريكية على تعزيز النظرة العدائية ضد إيران بين السياسيين الأمريكيين. كذلك فإن إجراءات مثل إزالة قاعدة التنصيب كبكان من قبل حكومة بازرگان ساهمت في تعزيز النظرة المعادية لإيران في أذهان الأمريكيين. مع ذلك، في تحليل أسباب معاداة أمريكا في سياسة واشنطن، هناك عامل رئيس يمكن شرحه وهو عدم وقوع إيران الثورية في جبهة وقطب الشرق، حيث أنه في مؤتمر غوادلوب، الذي عقد شهور قبل الثورة، تم دراسة عدم استقرار حكم الشاه وحتمية الثورة الإيرانية وقرر خروج محمد رضا بهلوي من إيران. في هذا المؤتمر، اعتبرت أمريكا الحفاظ على إيران خارج قطب الشرق أمراً ضرورياً. بهذا السبب نشهد أنه رغم أن جهود أمريكا التدخلية في تطورات الأشهر قبل وبعد الثورة الإسلامية باءت بالفشل، فإن إجراءات حكومة بازرگان المؤقتة بسياسات عدم الانحياز، خلقت ضماناً بأن إيران لن تنضم إلى الكتلة الشرقية وهذا الأمر خفف في البداية إلى حد ما من النظرة العدائية للثورة الإيرانية تجاه أمريكا في نظر مخططي السياسة الأمريكيين.
مع ذلك، فإن احتلال السفارة الأمريكية، أدى إلى تفعيل النظرة التناحرية المتعاظمة تجاه طهران؛ أي من مرحلة الشك والمنافسة، دخلت العلاقات مرحلة الصراع والمواجهة. نتيجة لذلك، أدت التطورات في الجانبين الإيراني والأمريكي إلى الانتقال من حالة التيه وتنوع الخطاب إلى نوع من وحدة الخطاب، حيث أصبحت معاداة أمريكا في إيران بالقراءة السائدة، وأصبحت معاداة إيران في أمريكا السياسة الرسمية والخطاب المهيمن؛ أمرٌ بناءً على الدراسات التاريخية، أن الجانب الأمريكي هو الذي لعب الدور الأكبر في تشكيله وترسيخه. نتیجتاً فإن هذا التصور والبناء للعدو، أوجد صورة في أذهان الطرفين لم تكن موجودة في البداية بالشكل الحالي، وهذا العامل هو تطورات عبر الزمن أدت إلى ترسيخ واقع وصورة خطابية مهيمنة في كلا الطرفين، حيث أن حل هذا التحدي ليس بهذه السهولة، لأن مستوى التوتر اليوم تجاوز الإطار الخطابي ودخل طبقات عميقة من النظام التصوري للمجتمعات مما يحول تخطيه وإدارته إلى أمر شديد التعقيد.
كاتب وباحث سياسي من إيران.
عضو الهيئة الأكاديمية لمعهد الإمام الخميني (رض) والثورة الإسلامية.