الثلاثاء 04 تشرين ثاني , 2025 02:59

حرب حزيران 2025: حين سقطت أسطورة الردع الإسرائيلي أمام الصواريخ الإيرانية

الخسائر الإسرائيلية من جراء الصواريخ الإيرانية

في حزيران/يونيو 2025، اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين الكيان الإسرائيلي المؤقت والجمهورية الإسلامية الإيرانية، حين شنّ الاحتلال حربًا خاطفة استهدفت القيادات العسكرية والعلماء النوويين الإيرانيين في محاولة لتدمير البنية الصاروخية والنووية لطهران. غير أن الحرب التي توقّعها الإسرائيليون سريعةً وحاسمةً تحوّلت إلى صراع استنزاف دام اثني عشر يومًا، ردّت خلاله إيران بأكثر من 350 صاروخًا باليستيًا ومجنحًا ضربت عمق تل أبيب والمدن الكبرى، محدثةً خسائر بشرية ومادية ونفسية غير مسبوقة، ومُسقطةً أسطورة "التحصين الكامل" للجبهة الداخلية.

على الصعيد النفسي، عاش المجتمع الإسرائيلي صدمةً وجودية أعادت إليه هواجس حرب الخليج عام 1991. فقد ارتفعت طلبات الدعم النفسي بنسبة تجاوزت 300%، وانتشرت نوبات الهلع والاضطراب، فيما لجأ العشرات إلى الهروب بحرًا نحو قبرص، في مشهد عبّر عن انهيار الثقة بين المواطن والدولة. هذه الصدمة النفسية ترافقت مع شعور عميق بانعدام الأمان الجماعي، وتآكل العقد الاجتماعي الذي يربط المجتمع بالمؤسسة الحاكمة.

اجتماعيًا، تسببت الحرب في تفكك جزئي للنسيج الداخلي. تعطلت المدارس والقطاعات الإنتاجية، وارتفعت معدلات الغياب عن العمل إلى 75%، وظهرت حوادث نهب وسرقة في المدن المستهدفة. أزمة الملاجئ فجّرت نزاعات بين المستوطنين حول أحقية الاحتماء، كاشفةً عن انهيار القيم التضامنية. ومع اتساع رقعة القصف، انكشفت هشاشة مؤسسات الطوارئ وغياب خطة لإدارة الجبهة الداخلية، ما أثار موجة احتجاجات وانتقادات ضد الحكومة التي بدت عاجزة عن حماية السكان أو تأمين الملاجئ والغرف المحصنة. وهكذا تحوّلت الحرب إلى أزمة ثقة مزدوجة بين الأفراد، وبين المجتمع والدولة.

أما الخسائر العسكرية، فكانت كاشفة لفشل العقيدة القتالية الإسرائيلية. فقد خسر الجيش طائرات مسيّرة، وتعرضت قواعد تل نوف والكرياه ومواقع للموساد لضربات مباشرة. ورغم آلاف الطلعات الجوية، أخفقت إسرائيل في تحقيق تفوق جوي مطلق، فيما أظهرت الدفاعات الإيرانية قدرة على الصمود والمناورة. واستُنزفت منظومات القبة الحديدية ومقلاع داوود بسبب كثافة الإطلاقات الاعتراضية، ما أدى إلى تراجع الجاهزية الدفاعية لأسابيع لاحقة. ومع ضرب منشآت استراتيجية في العمق، برزت هشاشة الردع الإسرائيلي التي طالما شكّلت عماد سياسته الأمنية.

اقتصاديًا، تكبّد الكيان نحو 40 مليار شيكل خلال أيام الحرب، بواقع مليار يوميًا لتشغيل منظومات الدفاع والعمليات العسكرية. أُغلقت المصافي والموانئ والمطارات، وتضررت منشآت حيوية مثل مصفاة حيفا ومنصة الغاز في عسقلان، وانخفضت البورصة 12% في أسبوع واحد، وتراجع الشيكل أمام العملات الأجنبية. توقفت حركة الإنتاج والتجارة، وتعطلت السياحة والنقل، وانهار النشاط الاستهلاكي الداخلي. هذه الخسائر المباشرة وغير المباشرة جعلت الحرب الأكثر كلفة منذ قيام الكيان، وفرضت على الحكومة إعادة هيكلة مالية قد تشمل تقليص الإنفاق ورفع الضرائب.

سياسيًا، خرجت الحكومة الإسرائيلية مثقلة بالفشل والإحراج. لم يتحقق أيٌّ من أهداف نتنياهو بإسقاط النظام الإيراني أو تدمير برنامجه النووي، بل اعترفت وسائل إعلام عبرية بأن "العملية لم تبلغ غاياتها". تفكك الإجماع الداخلي، وارتفعت أصوات داخل المؤسسة الأمنية تطالب بوقف النار فورًا، فيما شهد الكابينت انقسامات حادة. تراجعت الثقة الشعبية بالقيادة السياسية والعسكرية، وبدأت المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن سوء التقدير. كما انعكست نتائج الحرب على مكانة إسرائيل الإقليمية، إذ بدت عاجزة عن العمل منفردة دون غطاء أميركي، بينما خرجت إيران أكثر ثقة وصلابة، فارضة معادلة "العمق بالعمق" وردعًا متبادلًا يقيّد الحركة الإسرائيلية مستقبلاً.

من أخطر النتائج بعيدة المدى للحرب بروز ظاهرة الهجرة العكسية وهروب النخب الاقتصادية والعلمية. فخلال أيام القصف، غادر العشرات بحرًا نحو قبرص، فيما كشفت تقارير عن مغادرة مئات الأثرياء والعلماء بحثًا عن الأمان في أوروبا وأميركا. تحوّل البحر إلى رمز للنجاة، وتكررت العبارة بين المغادرين: "البحر أكثر أمانًا من الأرض". هذه الهجرة الجزئية، وإن لم تتحول بعد إلى موجة جماعية، تعبّر عن فقدان الثقة بالدولة ومؤشر على "نزيف استراتيجي" قد يهدد البنية الاقتصادية والعلمية للكيان في المدى البعيد.

أزمة الملاجئ التي عاشها المستوطنون كانت بدورها مرآةً لفشل الدولة في حماية مواطنيها. نصف الإسرائيليين لا يمتلكون ملاجئ خاصة، والملاجئ العامة امتلأت وأصبحت مسارح للفوضى والتوتر. المشاهد اليومية في تل أبيب وحيفا، حيث تكتظ العائلات تحت الأرض لساعات طويلة، عكست انهيار الجاهزية المدنية. ومع امتداد القصف إلى مناطق كانت تُعتبر آمنة، بدأت موجات نزوح داخلية وهروب نحو سيناء أو أوروبا، في ظاهرة غير مسبوقة منذ عقود.

استراتيجيًا، أثبتت حرب حزيران 2025 نهاية وهم "الحسم السريع" الإسرائيلي. فقد أظهرت أن القوة العسكرية وحدها عاجزة عن فرض الإرادة في مواجهة خصم بحجم إيران، وأن منظومة الردع الإسرائيلية فقدت تفوقها المطلق أمام صعود الردع الصاروخي الإيراني. كما كشفت الحرب الفجوة العميقة بين الجبهة العسكرية والجبهة الداخلية، إذ أخفقت القيادة في حماية المدنيين وإدارة الطوارئ، ما أفضى إلى انهيار الثقة بالدولة. لقد خرجت إسرائيل من الحرب أكثر انقسامًا وضعفًا، بينما خرجت إيران أكثر قوة واتحادًا.

ختامًا، يمكن القول إن حرب حزيران 2025 شكّلت نقطة تحول استراتيجية في ميزان القوى الإقليمي. إذ تحمّلت إسرائيل كلفة بشرية واقتصادية وسياسية هائلة دون تحقيق أهدافها، بينما رسخت إيران معادلة ردع جديدة وأثبتت قدرتها على الوصول إلى عمق العدو. وبذلك، باتت القيادة الإسرائيلية أمام تحدي إعادة بناء ردعها وترميم تماسكها الداخلي، في حين دخلت المنطقة مرحلة جديدة من توازن الرعب، حيث لم يعد العمق الإسرائيلي بمنأى عن العقاب، ولم تعد "إسرائيل" قادرة على خوض حرب بلا أثمان.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور