منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقع الكيان الإسرائيلي المؤقت في فخّ أحد أهم مبادئ الحرب: المباغتة. تلك الضربة التي باغتت المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية شكّلت صدمة استراتيجية لا تزال آثارها تتردد حتى اليوم، بعدما أظهرت هشاشة العقيدة العسكرية القائمة على التكنولوجيا والاستخبارات المتقدمة. فنجاح المباغتة في أي حرب ليس مجرد تفصيل تكتيكي، بل هو عامل حاسم قد يُحدّد مصير المعركة كلها.
بعد عام تقريبًا، حاول الاحتلال استعادة زمام المبادرة وتطبيق المبدأ نفسه ضد محور المقاومة، فشنّ هجومًا مفاجئًا على لبنان، ظنًّا منه أنّ الضربة الخاطفة ستعيد له هيبته. غير أنّ الرد الصاروخي الذي نفّذته المقاومة الإسلامية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، عبر إطلاق 17 صاروخًا باليستيًا نحو تل أبيب ومواقع حساسة، قلب المعادلة مجددًا وأجبر العدو على وقف النار.
وتكرّر المشهد ذاته في حزيران/يونيو 2025 أثناء "حرب الاثني عشر يومًا" ضد إيران، حين انهارت خطة المباغتة الصهيونية خلال 15 ساعة فقط، قبل أن تُجبَر تل أبيب على إنهاء الحرب خلال أقل من أسبوعين. هكذا سقطت فكرة السيطرة والمفاجأة ثلاث مرات متتالية: في غزة، ثم لبنان، ثم إيران، بينما بقيت المقاومة ومحورها أكثر قدرة على امتصاص الصدمة وتحويلها إلى فرصة.
المباغتة، كما تُعرّفها النظريات العسكرية، تقوم على ضرب العدو في الزمان أو المكان أو الأسلوب غير المتوقع، لإحداث شلل نفسي وعملياتي يتيح للمهاجم تحقيق أهدافه بسرعة وبأقل كلفة. لكنّ هذا المبدأ يتطلّب شرطين أساسيين: السرّية المطلقة والتقدير الدقيق للعدو. أيّ خلل في أحدهما يُحوّل المفاجأة إلى فخٍّ لصاحبها.
في الحروب الحديثة، باتت المباغتة أكثر تعقيدًا بسبب دخول الذكاء الاصطناعي والأنظمة الرقمية التي تحوّل المعركة إلى شبكة مترابطة من البيانات. الجيش الإسرائيلي، الذي اعتمد خلال السنوات الأخيرة على أنظمة مثل "هبسورة" و"لافندر" و"أين أبي"، بنى منظومته على فكرة قراءة الأنماط والتنبؤ المسبق بسلوك العدو. لكنّ عملية طوفان الأقصى كشفت حدود هذه التكنولوجيا عندما خرجت الأحداث عن كل النماذج الرقمية، فتعطلت "الآلة" التي كان يُفترض بها أن تحكم الميدان.
في الحروب النظامية، تشبه الجيوش الحديثة قطارًا يسير بسرعة فائقة على سكة دقيقة، وحين تقع المفاجأة في مكان غير محسوب، تخرج المنظومة كلها عن مسارها. فالمباغتة في هذا السياق تُصيب القيادة والاتصالات والرادارات والأنظمة الإلكترونية، أي الأعصاب الحيوية للجيش. وعندما تتعطل هذه الأعصاب، يدخل الجيش في حالة ارتباك وفقدان للثقة، ويعود إلى أساليب تقليدية أبطأ في اتخاذ القرار، مانحًا خصمه وقتًا ثمينًا للمناورة والتمدد.
أما في الحرب الهجينة أو اللامتكافئة، فالأمر مختلف تمامًا. فالمقاتل غير النظامي يعيش أصلاً في بيئة يغلب عليها عدم اليقين، وعقيدته القتالية قائمة على التكيّف والارتجال لا على الخطط الصارمة. لذلك يصعب مباغتته بالمعنى التقليدي، لأنّ المفاجأة جزء من طبيعته. في ساحات المقاومة، لا وجود لمركز ثقل واحد يمكن ضربه لإحداث شلل، فالقوة موزّعة على وحدات صغيرة مستقلة قادرة على مواصلة القتال حتى لو فقدت الاتصال بالقيادة.
من هنا، تكون المباغتة بالنسبة للجيوش النظامية فيروسًا يعطّل النظام، بينما هي بالنسبة لقوى المقاومة عنصرًا داخليًا في برمجتها القتالية. ولهذا فشلت تل أبيب في شلّ حزب الله رغم استخدامها مبدأ "القطع الرأسي" واستهدافها لقيادته العليا.
خلال معركة أولي البأس بين 17 أيلول/سبتمبر و10 تشرين الأول/أكتوبر 2024، نفذ العدو سلسلة من الضربات التي صنفها كـ"مباغتة استراتيجية"، أراد من خلالها تدمير منظومة القيادة والسيطرة (C4I) للمقاومة. بالفعل، شكّلت الضربة الأولى، المعروفة بعملية "البايجر"، صدمة ميدانية قصيرة المدى بعد استهداف مراكز الاتصال والمستودعات. إلا أنّ البنية اللامركزية للمقاومة سمحت بإعادة تنظيم الصفوف خلال ساعات، فاستعادت وحداتها القدرة على القتال وأطلقت رشقات صاروخية مكثفة وصلت إلى عمق تل أبيب.
لم تكن تلك مجرّد استعادة للتوازن، بل تحوّلت إلى اختبار عملي لنظرية الصمود الهجين، التي تجعل من المرونة والبدائل اللوجستية ضمانة للاستمرار رغم الخسائر.
في المستوى القيادي، كان اغتيال السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين ذروة محاولة إسرائيل لتحقيق "القطع الرأسي" لمنظومة القرار في حزب الله. غير أنّ المفاجأة التي أرادها العدو تحوّلت إلى فرصة لإعادة إنتاج القيادة بسرعة نادرة، مع بروز الشيخ نعيم قاسم الذي تولّى الأمانة العامة وأعاد توجيه المعركة بخطاب حاسم أكّد استمرار القتال بلا تردد.
لقد بُنيت بنية الحزب منذ عقود على افتراض أن قياداته أهداف دائمة، ولذلك أُنشئت آليات متينة للخلافة والتعاقب. هذا الإعداد المسبق جعل الصدمة القيادية قصيرة المدى، بينما استمرّت غرفة العمليات في العمل وأُطلقت لاحقًا عمليات "الحساب المفتوح" و"خيبر"، ما دلّ على أنّ الهيكل التنظيمي لم يُصب بالشلل الذي راهنت عليه تل أبيب.
لكنّ الفشل الأكبر للمباغتة الإسرائيلية كان على مستوى إرادة القتال. فاستشهاد القادة، بدلاً من أن يُضعف المعنويات، أطلق موجة تعبئة نفسية وروحية هائلة. تحوّلت الخسارة الرمزية إلى طاقة ثأرية أعادت تعريف قواعد الاشتباك. من هنا بدأ تصعيد غير مسبوق في الردود: صواريخ باليستية من طراز "قادر 2"، وضربات مركزة على تل أبيب و"الكرياه" ومراكز الموساد والأمن الداخلي. كل ذلك عكس تحوّلًا في الحالة النفسية للمقاتلين من الدفاع إلى الهجوم المفتوح.
لقد انقلبت المفاجأة على صانعها، لأنّ المقاومة التي تقوم على العقيدة والإيمان ليست منظومة يمكن كسرها بالصدمة، بل قوة تتغذى منها.
تؤكد هذه التجربة أن المباغتة في الحرب الحديثة لم تعد سلاحًا مضمون الفاعلية، خصوصًا حين تُستخدم ضد تنظيمات عقائدية مرنة وموزعة القيادة. فالتكنولوجيا التي يفترض أن تمنح الجيوش ميزة السيطرة، تتحوّل عند المفاجأة إلى عبءٍ يقيّد ردّ الفعل، بينما تمنح اللامركزية قدرةً على التكيّف تفوق الحسابات الرقمية.
لقد نجح الاحتلال في إلحاق أضرار مادية جسيمة بالمخازن والبنى القيادية للمقاومة، لكنه فشل في تحقيق هدفه الأهم: كسر الإرادة. والنتيجة أن المقاومة اللبنانية، رغم خسائرها، خرجت من المعركة أكثر قوةً وثقةً، فيما بدت إسرائيل كمن خسر "الفرصة الذهبية" لتحطيم خصمه.
إنّ ما حدث في لبنان ليس مجرد فشلٍ تكتيكي في إدارة عملية عسكرية، بل إخفاق بنيوي في فهم طبيعة الحرب الحديثة. فالمباغتة التي كانت يومًا مفتاح النصر، أصبحت في عصر الذكاء الاصطناعي سلاحًا ذا حدّين: قد تُسقط خصمًا متجمّدًا في أنماطه، لكنها أيضًا قد ترتدّ على صاحبها حين يواجه خصمًا يتقن فنّ المفاجأة أكثر منه.
الكاتب: غرفة التحرير