يتمايز "ترامب" عن أسلافه في بعض مواقفه وسلوكيّاته وسياساته وصورته النرجسيّة والهزليّة، لكنه لا يُعتبر شاذًّا عن مشاريع الإدارة الأميركيّة وديناميّات دولتها العميقة بوصفها الأكثر عنفًا حيث خاضت عشرات الحروب وأسقطت أنظمة وحكومات ونشرت الفوضى عبر استخباراتها الأمنيّة وأنشأت قواعدها وسجونها العسكريّة وجابت أساطيلها بحار العالم؛ ولا سيّما فيما يتّصل بمنطقة غرب آسيا أو ما يعرف بمنطقة الشرق الأوسط، وتلك السياسات الداعمة لإسرائيل في تماديها وتوسّعها.
يستأنف "ترامب" أجندته القديمة -الجديدة ما بدأه في ولايته السابقة من الإعلان عن صفقة القرن والاتفاقات الإبراهيميّة، متمحورًا حول "أميركًا أولًا" بالمعنى التوسّعي الاستكباريّ لا الانكفائي سواءً عبر الممارسات العدوانيّة أو الإملاء المهين.
ويلاقي ذلك بوجوب توسيع "إسرائيل" الصغيرة، للاستثمار بها في إحراز العديد من أهدافه، وبذلك يبذخ ترامب بإسداء الهدايا المجانيّة لإسرائيل، على قاعدة "من لا يملك يعطي من كيس غيره لمن لا يستحق"، ممتهنًا دولًا باستدرار أموالها وأراضيها ومتّخذًا قرارات تنفيذيّة حارقًا مراحلها ومخالفًا الأطر القانونيّة وأنماط العلاقات الدبلوماسيّة بطريقة صادمة للمضي في مآربه الشيطانيّة.
المآرب التوسّعيّة خطيرة وجديّة
تبدو الحملة الأميركيّة-الإسرائيليّة التوسّعيّة خطيرة وجدّيّة، وقد سبقت شروع "ترامب" بممارسة صلاحياته سلسلة من الارتكابات الوحشيّة ضد إيران من خلال الهجوم الإسرائيليّ السافر على القنصليّة الإيرانيّة في دمشق واغتيال إسماعيل هنيّة في طهران وما استتبع ذلك من قصف مواقع عدّة داخل إيران عقب عملية الوعد الصادق الثانية، كما سبقته تمهيدات لتغييرات جيوسياسيّة وديموغرافيّة سواء في الحرب والإبادة العدوانيّة العالميّة بيد إسرائيليّة على غزّة ولبنان، وفي الانقلاب المدبّر في سوريا مع تداعياته الاستراتيجيّة، وفي محاولات إعادة إنتاج السلطة في لبنان على الهوى الأميركيّ.
لا يمكن نسيان أن "ترامب" هو الذي مزّق الاتفاق النوويّ وانقلب عليه، وهو الذي أعطى الأمر باغتيال الحاج قاسم سليماني، ثم يدّعي استعداده لإجراء محادثات مع الرئيس الإيراني ملفتًا إلى عددٍ كبيرٍ من الدول من بينها إيران ترغب بالسلام في "الشرق الأوسط" بحسب زعمه، ملوّحًا إلى ما يمكنه فعله حتى يتعايش معها، لكنها دعوى فارغة إلا من الإملاء الخبيث والمهين، فما يلبث أن يلقي اتهاماته بأن إيران قريبة جدًّا من امتلاك سلاح نوويّ حتى يسارع إلى توقيع مذكرة تنفيذيّة تمنعها من ذلك ويكمل هزليته بالقول "إنه كان مترددًا في ذلك ويصف الأمر بأنه صعب للغاية"، وبأن لديه الحق في منع بيع النفط الإيراني إلى دول أخرى.
ثم يشرع بتهديداته بقوله "إذا ردّت إيران وحاولت قتلي فسنقضي عليها" ممتهنًا إقحام نرجسيته الشخصيّة باستدرار العطف والتحريض، معلنًا عن عزمه على فرض ضغوط قصوى عليها.
لا يمكن الاستخفاف بهذه الحماقات "الترامبيّة"، إلا أنّ التنبيه إلى تلك المخاطر لا يعني بأنها قدر حتميّ.
أولويّة صيانة الأمن القومي لجبهة المقاومة
ومع عشرة الفجر في ذكراها السادسة والأربعون لانتصار الثورة الإسلاميّة، جاء الجواب صارمًا وواضحًا من الإمام الخامنئي، "بأن المفاوضات مع أمريكا ليست ذكية ولا حكيمة ولا مشرّفة وليس لها أي تأثير في حل مشاكل البلاد"؛ وبأنه "لا ينبغي أن تكون هناك مفاوضات مع أمريكا".
لا تسعى طهران إلى حرب ولكن في الوقت عينه لن تستسلم لتلك المؤامرات أو تستدرج إلى حوارات لا طائل منها إلا تمزيق وحدة الموقف الإيراني واستلاب عزّته ومكانته بين الشعوب؛ وهذا ما أكده المسؤولون الإيرانيّون وأنهم خلف قائد الثورة.
من هنا، تبقى العين مسلّطة على نوايا وسلوك الأعداء تجاه إيران وسائر الجبهات، أمام هذا الشره الأميركي للدماء أو الإملاء المهين لا سيّما في مسائل التهجير والتوطين والاستيطان والتوسّع الجغرافي والجيوسياسي والجيواقتصادي، ولا يبقى أمام قوى المقاومة إلّا حمل المسؤوليّة بصورة مضاعفة وإعلاء أولويّة صيانة الأمن القومي المقاوم لجبهة المقاومة على كل الاعتبارات الأخرى وتثبيت مبدأ التساند بين الساحات واليقظة لمجريات الميدان وتطوّرات الأحداث، وجعل ذلك مفتاح حماية المصالح الوطنيّة المحليّة، لا العكس.
علمًا، أن بين يدي جبهة المقاومة أوراقًا هامّة لتبديل الوهم في المشهد الذي يسعى "ترامب" و"نتنياهو" إلى تكريسه وكأن اللعبة انتهت بالقضاء على المقاومة.
أثبتت المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق جدواها مرّة جديدة، وهي تمتلك من القوة ما يؤهّلها لمباشرة أي نزال في الميدان، بينما تنفتح الساحة السوريّة على ولادة مقاومة عازمة على قطع الطريق على الهيمنة الأميركيّة وأدواتها وعلى الاحتلال الإسرائيليّ الذي توسّع في الجولان، وتمتلك الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة خيارات عمليّة عدّة للضرب بيد من حديد وإعادة إرساء قواعد جديدة ترسمل الصمود الإعجازي الكبير في لبنان والمقاومة الناشطة في فلسطين والإسناد البطوليّ لليمن والعراق والتضحيات العظمى لقيادات المقاومة بمزيد من الدعم والعناية والرعاية وهذا ما اختزنته الصورة ودلالاتها بلقاء الإمام الخامنئي مع رئيس وأعضاء مجلس القيادة في حركة المقاومة الإسلاميّة "حماس" في حتمية الدفاع عن فلسطين وقطعيّة انتصارها، ليرسو الاستنتاج على عبارة "عبثًا يصوّب ترامب" سهامه المسمومة والخبيثة على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، فإن طابخ السمّ آكله.