يمكن تعريف الحرب التجارية بأنها نزاع ينتج غالباً عن تبني دولة أو عدة دول السياسة الحمائية Protectionism لبعض قطاعاتها الاقتصادية والتجارية، وتتمثل أبرز أدوات النزاع بين دولتين أو أكثر في المجال التجاري حول عدد من الأبعاد، أبرزها التعريفات الجمركية المتبادلة بين الأطراف ذات العلاقة، وتُعرف أحياناً باسم حروب الجمارك أو حروب الرسوم أو حروب التعريفات الجمركية. وكردّ فعل انتقامي، قد تزيد الدولة المقابلة التعريفات الجمركية على وارداتها، وهو ما يوجِد توتراً في العلاقات بين الطرفين نتيجة فرض دولة رسوماً جمركية إضافية على البضائع المستوردة من دولة أو دول أخرى.
وتختلف الحرب التجارية، عبر التعريفات الجمركية، عن الإجراءات الأخرى المتّخذة للسيطرة على الواردات والصادرات، مثل العقوبات التجارية، إذ إنّ الحرب التجارية ترتبط أهدافها بالتجارة تحديداً، بينما قد تكون للعقوبات أهداف خيرية بهدف حماية أبعاد إنسانية أو بيئية…إلخ، ويمكن تطبيق سياسات حمائية غير جمركية، على سبيل المثال، من خلال وضع حدّ أقصى لحصص الاستيراد (أي تحديد نسبة معينة للواردات من سلعة معينة من دولة معينة)، أو وضع معايير ومواصفات محددة واضحة للمنتجات، أو تطبيق دعم حكومي للعمليات الصناعية لتقليص الاعتماد على مصادر خارجية…إلخ
في هذا السياق، أصدر مركز الزيتونة للدراسات، دراسة بعنوان "مستقبل الحروب التجارية في سياسات ترامب الدولية"، للكاتب أ. د. وليد عبد الحي، وأوردنا أدناه الخلاصة التي توصلت إليها الدراسة، ويمكنكم تحميلها بشكل كامل في الأسفل.
الخلاصة:
شكّل العجز التجاري الأمريكي مع أغلب دول العالم وخصوصاً مع الصين مؤشراً مقلقاً على مستقبل الدور الأمريكي في السياسات الدولية، ويقوم هذا العجز على دعائم ثلاث هي:
- عدم التوازن بين مستويات الادخار ومستويات الاستثمار.
- اتّساع الفجوة بين الإنفاق الحكومي من ناحية وإيرادات الضرائب.
- عدم التوازن بين الصادرات والواردات.
وعند النظر في إجمالي العجز الناتج عن هذه الأبعاد، نجد أنّ الولايات المتحدة بلغت مستوى من العجز في موازنتها الفيدرالية يصل إلى 1.8 تريليون دولار في سنة 2024، وهو يقارب نحو 6.4% من إجمالي ناتجها المحلي بزيادة نحو 0.1% عن سنة 2023، وهو رقم يمكن الاتكاء عليه لبناء سيناريوهات متشائمة ما لم يتم اتخاذ إجراءات وقائية لتفادي تداعياته، خصوصاً أنّ الدول المنافسة للولايات المتحدة في المجال الاقتصادي لا تعاني من هذه المشكلة الهيكلية بمقدار ثقلها على كاهل الاقتصاد الأمريكي.
ذلك يعني أنّ المدخل المباشر لتحقيق التوازن يتم أولاً بضبط الإنفاق الحكومي داخلياً، والإقدام على مثل ذلك سيقود إلى ردات فعل شعبية ومن بعض القطاعات المختلفة اقتصادياً، فهل سيقابل المواطن الأمريكي تخفيض الرعاية الصحية أو التعليم…إلخ بالترحاب؟ كما أنّ تعهدات ترامب بتخفيضات ضريبية، كما قال، ستؤدي إلى تفاقم الاختلال المالي، لأنّ إيرادات الضريبة ستقل لمواجهة مستويات الإنفاق الحكومي.
أما مسألة التعريفات الجمركية، خصوصاً في مواجهة دول عملاقة كالصين، فإنّ نجاحها مرهون بعوامل عدة منها:
- ردّ الفعل من الدول الأخرى على نسبة جماركها على السلع الأمريكية، وهو ما يجعل هذه السلع أقل جذباً نظراً لارتفاع أسعارها في حالة تطبيق ردّ الفعل عليها، فكل زيادة في التعرفة يليها وبشكل فوري زيادة في سعرها مما يقلّل من قدرتها التنافسية.
- القدرة على التعويض في الأسواق، ففرض الجمارك على السلع الأمريكية مع معظم أسواق العالم سيزيد من سعرها في كل الأسواق، بينما السلعة الصينية ستبقى قدرتها التنافسية بل ستزداد مع الدول التي تبقى فيها السلع الصينية على المستوى نفسه من التعريفة الجمركية، فما كانت تبيعه في الأسواق الأمريكية سينتقل إلى أسواق أخرى. ويكفي أن نشير إلى أنّ إجمالي الفائض التجاري الصيني مع أهم عشرين شريك تجاري لها كان سنة 2024 نحو 992.2 مليار دولار، منها 361 مليار مع الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الصين بافتراض نظري بسيط لو تمّ إغلاق تجارتها مع الولايات المتحدة بنسبة 100%، فإنّ فائضها التجاري سيبقى في حدود 631 مليار دولار، لكنّ الصين ستنقل بعضاً مما تقفل الأسواق الأمريكية في وجهه إلى دول أخرى مثل منطقة الآسيان (تبلغ تجارتها مع هذه المجموعة نحو 982 مليار)، أو مع الاتحاد الأوروبي (786 مليار دولار)، وهو ما سيرفع الرقم السابق بنسبة كافية لامتصاص الأثر الأمريكي.
- تنتهج الصين سياسة معينة، فهي تقوم بنقل صناعاتها التي تفرض عليها الولايات المتحدة تعريفة جمركية إلى دول أخرى، وتصدّرها للولايات المتحدة على أساس أنّ المنتج هو تلك الدولة، وخصوصاً الدول التي تكون نسبة التعريفة الجمركية الأمريكية عليها متواضعة، وهنا تستفيد الدولة المستقبلة للصناعة الصينية من ناحية، وتستفيد الصين بتمويه الدخول للسوق الأمريكي ولكن بزي الدول المضيفة لصناعاتها. ومع أنّ بعض الدول مثل فييتنام لم تُبدِ ترحيباً بالفكرة (لأسباب سياسية تاريخية)، فإن غيرها سيجد ذلك فرصة له. وحيث إنّ الرسوم الجمركية الأمريكية تمس صادرات صينية إليها تصل إلى نحو 300 مليار دولار، فإذا تمكّنت الصين من إيجاد أسواق بديلة لنصف بضائعها، فإن تأثير الإجراءات الأمريكية سيكون أقل من 1% من إجمالي الناتج المحلي الصيني.
- من بين ردود الفعل الصينية هو تخفيض الصين لقيمة عملتها، وهو ما يجعل القيمة السعرية للسلع الصينية أقل، لكنها ستصبح أكثر جاذبية للمشتري الرشيد لأنها أرخص، وإذا تمكّنت الصين من ضبط التراجع في قيمة عملتها فإنها تستطيع تعويض تخفيض قيمة عملتها بزيادة الإقبال على إنتاجها السلعي بحكم رخص الاسعار.
- إنّ رفع الصين لقيمة تعريفتها الجمركية على السلع الأمريكية سيجعل أسعار السلعة الأمريكية مرتفعة جداً في ظلّ ارتفاع سعرها أصلاً بسبب ارتفاع معدلات الأجور في الولايات المتحدة، وهو ما يًسهم في رفع سعرها في الأسواق العالمية (فقيمة أجر العامل الصيني تساوي تقريباً 20% من أجر العامل الأمريكي).
- من الضروري ملاحظة أنّ إجمالي الإنفاق العسكري الأمريكي سنة 2024 يفوق نظيره الصين بنحو 566 مليار دولار (939 مقابل 373 مليار دولار)، وهذا يعيدنا لنبوءة بول كينيدي Paul Kennedy عن التمدد الزائد وأعبائه الاقتصادية Overstretch، الأمر الذي يزيد الأمور تعقيداً في وجه طموحات ترامب.
7. ثمة ظاهرة برزت منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، وهي أنّ الإنتاج السلعي، وخصوصاً الصناعي، يعرف الآن ظاهرة يطلق عليها علماء الاقتصاد اسم "سلاسل القيمة العالمية"، والتي تعني توزيع كل مراحل الإنتاج (من التصميم إلى التسليم للسلعة) في دول متعددة، ومن المؤكد أنّ هذه السلاسل متواجدة في خارج الولايات المتحدة، كامتداد للمركز. والمشكلة هي أنّ نموذج التصنيع الذي يُشكّل أساس نهج ترامب لم يكن موجوداً منذ ما يُقارب الأربعين عاماً، وبالتالي كيف ستُوفِّق سياسة ترامب الجمركية بين ترابط سلسلة القيمة العالمية وبين "قطريته المحصورة في المراحل المتواجدة داخل الولايات المتحدة فقط"، خصوصاً أنّ أي سعي لإعادة سلاسل التوريد بأكملها إلى الولايات المتحدة ستكون سبباً في ارتفاع أسعار المستهلك، وستجعل السلع الأمريكية غير قادرة على المنافسة دولياً.
من الواضح أنّ ترامب منحاز للسياسات الاقتصادية الصرفة أكثر من عنايته بالأبعاد السياسية والاجتماعية والقانونية الدولية، وقد يبدو ذلك ممكناً في المدى القصير، لكن الترابط الاقتصادي والسياسي والأمني والاجتماعي الذي كرّسته العولمة، بغض النظر عن المنظور المعياري لها، ستُجبر ترامب أو من يليه على احترام اتجاهها، مهما أوهمته نرجسيته المرضية بأنّه يعيد صياغة العالم، ويعيد للولايات المتحدة عظمتها، كما يقول شعار أطروحاته ومنظمته MAGA، ناهيك عن التداعيات السياسية المربكة التي ضربت منظومة الروابط للكتلة الرأسمالية التقليدية.
لكننا لا نستبعد أن يعمل ترامب على محاولة التعويض عن ثغرات مشروعه التجاري العالمي بالاتّكاء على بعض الأقاليم، خصوصاً في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، من خلال الاستجابة الأمريكية لهواجس بعض الأنظمة العربية على استقرارها الداخلي أو الإقليمي مقابل تقديم هذه الدول أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية والتجارية لأمريكا، والتي قد تصل حدّ إجبار العرب على تبنّي قيود في سياساتهم التجارية مع بعض الدول، خصوصاً مع الصين.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ. د. وليد عبد الحي