في جباليا، شمال قطاع غزة، قُتِلَ ثلاثة جنود "إسرائيليين" وأُصيب 11 آخرون في استهداف مباشر لعربة "هامر" خفيفة التدريع، كانت تتحرك ضمن منطقة صنّفها جيش الاحتلال سابقًا كـ"آمنة". لم يكن هذا الاستهداف حدثًا معزولًا أو هامشيًا في ساحة القتال، بل كان لحظةً كاشفة تختزل مأزقًا أعمق: أزمة العقيدة "العسكرية الإسرائيلية" في بيئة مشبعة بالمقاومة، حيث تختلط الأزقة بالنار، وتتحوّل الجغرافيا إلى عنصر حاسم في قلب موازين القوى.
الصدمة التكتيكية: حين يُجهَز على الغزاة من المسافة صفر
"اشتباك من المسافة صفر"، هكذا وصفت كتائب القسام ما حدث شرق جباليا. الاشتباك لم يكن مجرد مواجهة نارية، بل كمينًا مركبًا، فُتح بإحكام على عربة "هامر"، وتوسع ليستهدف مبنى يتحصن فيه العشرات من جنود الكتيبة التاسعة في لواء غفعاتي. تقول مصادر الاحتلال إن الكمين كان "استثنائيًا"، وهذا الاعتراف ليس مجرد توصيف لغوي بل تفكك علني لأسطورة الجيش الذي لا يُهزم.
الأرقام قاطعة: 3 قتلى، 11 جريحًا، عشرات من الجنود أجهز عليهم أو أصيبوا، وطائرة مروحية تعرضت لإطلاق نار مباشر لدى محاولة الإخلاء، ما أدى إلى فشل العملية، على الرغم من إطلاق نار كثيف لتأمين موقع الإخلاء.
في المنظور التقليدي للحرب، هذه ليست خسائر فادحة فحسب، بل انهيار في قدرة السيطرة والسيادة الجوية. في عقيدة الجيوش الحديثة، خاصة تلك التي تملك سلاحًا جويًا متفوقًا "كإسرائيل"، يُفترض أن تكون المروحية عنصر الإخلاء الآمن، لا هدفًا محاصرًا. وحين تصبح الطائرة عاجزة عن الهبوط، فإننا لسنا أمام معركة، بل أمام انكشاف كامل لمنظومة الهيمنة.
الهامر في جباليا: لماذا هذا الهدف بالذات؟
من وجهة نظر المقاومة، فإن اختيار "الهامر" لم يكن عشوائيًا. كما أن هذه العربة غير مدرعة، وتستخدم عادة في المناطق التي يعتبرها جيش الاحتلال "سهلة وآمنة". حين يُستهدف هذا النوع من العربات، فإن الضرر لا يكون ماديًا فقط، بل نفسيًا واستخباراتيًا أيضًا: لقد تم اختراق حسابات "الأمان". وتم الإطباق على الجنود في عمق خطوط الاحتلال الخلفية أو في محيط مركز القيادة، وليس فقط على خطوط التماس.
إن فشل عملية الإخلاء لم يكن نتاج صدفة أو خلل ميداني. إنه انعكاس لاستراتيجية جديدة تتبعها فصائل المقاومة، تقوم على استهداف قوات النجدة والإنقاذ بعد تنفيذ الكمين. هذا التكتيك، المستوحى من حروب العصابات الأكثر تعقيدًا، يُربك القيادة الميدانية ويُحوّل عملية إنقاذ الجرحى إلى مأزق أكبر من الكمين الأصلي.
توازن الرعب: حين تتساوى القوتان على الأرض
إن النقطة المركزية: "في هذا النوع من الحروب، تتساوى القوى". قد تبدو هذه الجملة متطرفة لمن يرى أن "إسرائيل" تملك أحدث ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية، من طائرات "إف-35" إلى الذكاء الاصطناعي. لكن الحقيقة هي أن التكنولوجيا، مهما بلغت من تطور، تفقد فعاليتها في الاشتباك القريب، خاصة في بيئة حضرية كثيفة ومُدجّجة بالأنفاق، والقناصة، والعبوات المزروعة بعناية في كل زقاق.
ولهذا، لم يستخدم الاحتلال الطائرات الحربية في الاشتباك، بل المروحيات، تجنبًا للنيران الصديقة، ولعدم وجود مسافة كافية تسمح باستخدام القصف الجوي دون المخاطرة بقواته.
إستراتيجية المقاومة: قتال الضواحي لفرملة الاحتلال
ما يحدث في جباليا ليس فعلاً معزولًا، بل جزء من خطة أكبر. المقاومة اختارت أن تخوض حرب استنزاف على تخوم القطاع، في بيت حانون وبيت لاهيا والشجاعية وخانيونس، أي في الأماكن التي لم يستطع الاحتلال بعد تثبيت نفوذه فيها. فإن الاحتلال يسعى للسيطرة على 75% من مساحة غزة، وترك الـ25% الباقية مكتظة بالسكان المدنيين كمجال ضغط على المقاومة، وتكريسًا لمعادلة "الأرض مقابل الخضوع".
لكن ما تواجهه "إسرائيل" ليس مجرد مقاومة عسكرية، بل مقاومة مكان. في قطاع غزة، كل متر مربع يمكن أن يتحوّل إلى فخ قاتل، وكل بناية سكنية إلى نقطة إعاقة، وكل حيّ إلى شبكة من الأنفاق والمفاجآت.
الدمار ليس استراتيجية
في المقابل، يتوسع الاحتلال في سياسة "مجزرة البنايات". أكثر من 80 بناية سكنية مرتفعة قصفت خلال الأيام الماضية، تؤوي نحو 40 عائلة لكل منها، ما يترك أكثر من 3200 عائلة دون مأوى في أيام معدودة. ومع التهجير المستمر من جباليا وبيت حانون وخانيونس، تتكشف نية "إسرائيل" في استخدام الضغط السكاني أداة حرب.
لكن هذا الدمار، حتى لو أفرغ أحياء كاملة، لا يُنتج نصرًا عسكريًا. تدمير البنية التحتية لم يمنع المقاومين من تنفيذ كمينهم في جباليا، ولا من إطلاق النار على مروحية الإخلاء، ولا من نصب كمائن جديدة في الجنوب. حين تتحوّل المدن إلى أنقاض، تتحول الأزقة إلى خنادق، وتُبعث الحرب من بين الركام.
تفوّق الإرادة على السلاح
ما يكشفه كمين جباليا هو أكثر من مجرد فشل تكتيكي لجيش الاحتلال. إنه لحظة تقويض للسردية "الإسرائيلية" بأن التقدم العسكري وحده يضمن النصر. فحين تعجز المروحية عن الهبوط، ويُقتَل الجنود فيما يُفترض أنه "الخط الخلفي"، وتُجهز المقاومة على العشرات في اشتباك من المسافة صفر، فذلك يعني أن "إسرائيل" تقاتل في ميدان لا تملكه، أمام خصم لا يُقاس بالسلاح بل بالإرادة.
في غزة، تتحدى الحجارة القنابل، والمباغتة تُهزم الطائرات، والمعرفة المحلية تهزم الأقمار الاصطناعية. في هذا السياق، لا يعود السؤال عن "متى ستنتصر إسرائيل؟"، بل: كيف لها أن تخرج دون أن تغرق أكثر؟
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]